الورد... ملهم الشعراء والفنانين ورسول العشاق والمتودِّدين

نشر في 17-04-2014
آخر تحديث 17-04-2014 | 00:01
No Image Caption
سميراميس غرسته في حدائق بابل المعلقة... والفراعنة زيّنوا به قصورهم وقبورهم
 خالد جميل الصدقة اقترن الجمال بالورد منذ الأزل، وبحث الشذا عن مأوى له فلم يجد أفضل من ثغر سلطان الرياحين. فعطّر دروب الأحلام، وألهم الأدباء والفنانين، وزيّن قصص العشاق، غرسته الملكة سمير أميس في حدائق بابل المعلقة، واستعان به الفراعنة لتزيين القصور والقبور.

وتحفل قصة الإنسانِ مع الورد بفصول متنوعة وجميلة كجماله، وزكية كعبيره، وقديمة قِدَمَ إحساس الإنسان بالجمال، فقد سُحِرَ به منذ أن التقطتْ عيناه صورتَـه الفاتنةَ وألوانَـه الباهرة. فمنحه أشكالا إبداعية متنوعة سكبها كتابة ورسماً ولفظاً مستلهماً من أشكال الورد بريقاً له لمعان الذهب ورائحة تطيب لها النفوس.

لم يقتصر استخدام الورد على طقس أو ظرف بعينه، بل تنوعت الاستفادة منه ضمن مناسبات مختلفة جاءت منسجمة مع تنوع الورد شكلاً ومضموناً ورائحة، فلم يكن دليلا على الحياة فقط بل رافق مراسم الموت محافظاً على هيبة المناسبة.

هامت به الروح منذ أن عَبِقَ بها طـِيـبُـهُ وتغلغل فيها شذاه، ثم تَفَتّحَ أكثر ما تفتح في رياضِ قلوبِ العاشقين، وزكا في دروبِ أمانيهم، وأغفى على أسرّتهم، وعَطّرَ ليالي أحلامهم، وضُمِّخَتْ به رسائلهم، ودخل في قصصهم وأساطيرهم، فلا نكاد نجد قصة حب عظيمة إلا وللورد فيها نصيب.

التاريخ القديم

وإذا أُتيح لنا أن نطوي آلافَ السنين لنلقي نظرة متفحصة على حضارات أسلافنا، فسنجد أن الورد كان حاضراً في كثير من جوانب حياتهم وسلوكهم وفنونهم، ففي بلاد الرافدين رسمه الناس على جدران معابدهم وقصورهم، ونقشوه على أوانيهم وملابسهم وأقمشتهم، وغرسته الملكة سميراميس في حدائق بابل المعلقة، وجَمّلتْ به عاصمتها المزدهرة، واكتشف (Sir Leanord Woolley ) في أثناء تنقيبه في مدينة أور ما يدل على وجود الورد الدمشقي فيها بين عامي 2648 و2630 قبل الميلاد، أما في مصر القديمة فقد زين الناس به قبورهم وقصورهم، وعثر علماء الآثار عليه ثاوياً في أضرحة موتاهم بين القرنين الثاني والخامس قبل الميلاد، ولعلهم كانوا يريدون أن يؤنسوا أرواح الموتى به، ويخففوا عنهم وحشة الموت الرهيبة، واستخدمه ملوكهم في شتى مناسباتهم، فها هي الملكة الفاتنة كيلوباترا احتفت احتفاء بالغاً بأنطونيو الروماني، ومن مظاهر تكريمها له آلافُ الورود التي كانت تزين الحفلاتِ والولائمَ التي تقيمها له.

والآن انتشر الورد في كل أنحاء المعمورة، وأصبح مقياساً للرقي والشفافية والذوق الرفيع، وكثرت أنواعه وأشكاله وألوانه حتى غدا من الصعب عدها وتصنيفها، وليس غريباً أن نُفاجأ في المستقبل بأنواع جديدة، تتجاوز في جمالها قدرةَ خيالنا على التصور، وتلبي ظمأ أرواحنا الباحثة دوماً عن الجمال الأسمى، وإنّا لمنتظرون.

الورد عند العرب

بوأ العربُ الوردَ المنزلةَ التي يستحقها، ورعوه أحسن رعاية، وفاح عطره في قصورهم وبيوتهم وحدائقهم، وأُولع به الخلفاء والشعراء والخاصة والعامة، وكان الخليفة المتوكل يقول: «أنا ملك السلاطين، والورد ملك الرياحين، فكلٌّ منا أولى بصاحبه»، وغالى في حب الورد حتى حرّمه على جميع الناس، واستبدّ به، وقال: «إنه لا يصلح للعامة»، فكان لا يُرى الوردُ إلا في مجلسه، وكان في أيام الورد يلبس الثياب الموردة، ويفرش الفرش الموردة، ويورِّدُ جميع الآلات.

وزيّنَ الوردُ حدائقَ الشعرِ العربي منذ أن غرسه الشعراء في قصائدهم، وضَمّخَ طيبُه حروفَهم ومعانيهم منذ أن خالطها، حتى لنكادُ نشعر أن القصيدة التي يفوح منها عبير الوردُ ينبغي أن تُشَمَّ وتُضَمَّ، وأن تُعلقَ زينةً على الجدران كما تعلق اللوحات الجميلة.

 ونقتطف هذه الأبيات من قصيدة لمحمد بن الطيب يرحب فيها بقدوم الربيع وما يصاحب موكبه من نَوْر الورود وحسن المنظر وطيب النسيم:

وردَ الربيعُ فمرحباً بوروده

وبنور بهجته ونور ورودهِ

وبحسنِ منظره وطيبِ نسيمه

وأنيقِ مبسمه ووشي برودهِ

فصلٌ إذا افتخرَ الزمانُ فإنه

إنسانُ مقلته وبيتُ قصيدهِ

يا حبذا أزهارُه وثماره

ونباتُ ناجمه وحبّ حصيده

والوردُ في أعلى الغصون كأنه

ملكٌ تحفُّ به سراةُ جنوده

الشعر الإنكليزي

ولا ينجو الشعراء الإنكليز من فتنة الورد وسحره، وسأكتفي بهذا المقطع للشاعرة دوروثي باركر مع إقراري بأن ترجمة الشعر لا يمكن أن تنقل إلا أقل القليل من جماله:

«وردة مثالية واحدة

لم يرسل لي إلا وردة واحدة منذ التقينا

 لكنه اختار رسولة حبه بذوق رهيف

 عميقة العاطفة، نقية، فواحة الندى مخضلة

 وردة مثالية واحدة».

الورد والحياة

علاقة الورد بالحياة حميمة ودافئة ومفعمة بكل ماهو سامٍ ومعبر ونبيل وجميل، ولو اختفى الورد من الحياة لاختفى معه كثير من أحلامنا وأشواقنا وأذواقنا وأفراحنا، وجفّ كثير من ينابيع إلهامنا وإبداعنا، وانحدر مستوى فنوننا وشعرنا وأدبنا، وفقدت اللغة بعض سحرها وألقها وروحانيتها ورمزيتها، وليس في كلامي مبالغة ولا تهويل، ويكفي للتدليل على صحة ما أقول أن نتخيل عالماً لا يستطيع العشاق فيه أن يتبادلوا الورد، لأنه غير موجود، ولا يستطيع الفنانون أن يرسموه للسبب نفسه، وليس بإمكان من يعود مريضاً عزيزاً أن يقدم إليه باقة ورد، تحيي في قلبه الأمل وتساعده على الشفاء، إذا تخيلنا عالماً كهذا فلابد أن يكون عالماً فيه الكثير من الوحشة والكآبة والقسوة، ويجب ألا ننسى أن الورد بجماله البالغ ولطفه المتناهي وروحانيته الآسرة قد ساهم في جعل الإنسان لطيفاً وشفافاً وذواقاً، كما ساهم في جعل لغته خصبة وشاعرية، وفي جعل فنونه كلها أكثر رقياً وجمالاً، وفي جعل حضارته أكثر إنسانية.

وقد دخل الورد في مناسبات الحياة المختلفة، وأصبح ينوب عن كثير من الأقوال والأفعال، وغدا يرمز إلى مواقف وعواطف متباينة بمقدار تباين ألوانه وأشكاله وأعداده، فلغة الورد أبلغ من لغة اللسان، وأفصح في التعبير عن أعماق الشعور وخفايا القلوب.    

مقياس الإنسانية

وبعد، فإنّ الحديث عن الورد يبدأ ولا ينتهي، وكيف ينتهي؟ والورد قد مازج أرواحنا، وتفتح في قلوبنا، وأصبح رسول أشواقنا وأفراحنا وأحزاننا، بل غدا مقياس تحضرنا وذوقنا وشفافيتنا، وأكاد أقول مقياس أخلاقنا وإنسانيتنا، فلا أظن إنساناً يعشق الورد يمكن أن يكون فظاً، ولا أخال امرأة تعتني بالورد يمكن أن تهمل أطفالها، ولا أحسب إنساناً يتاجر بالورد يمكن أن يتاجر بأدوات الموت مهما كانت هذه الأدوات.

back to top