عندما قرأت تصريحات سابقة للنائبة الأفغانية شكرية باركزاي كانت قالت فيها عام 2009: "إذا عادت (طالبان) إلى الحكم فإنني سأغادر أفغانستان مع أطفالي بتذكرة ذهاب دون عودة"، ثم قرأت تصريحاتها الجديدة التي قالت فيها: "حتى لو عاد هؤلاء فإننا لن نغادر بلادنا... العمر واحد والرب واحد"... عندما قرأت هذا تذكرت وزيرة التربية والتعليم الأفغانية السابقة أناهيتا راتب زاده التي كنت التقيتها في بدايات ثمانينيات القرن الماضي وأجريت معها حديثاً مطولاً لإحدى الصحف اللبنانية، تنبأت فيه بكل ما حدث في تلك البلاد التي تقلبت على جمر المتغيرات أكثر من ثلاثين عاماً.
كان جناح "برشام" في حزب "خلق" الأفغاني بقيادة اليساري المتشدد رجل الروس، بابراك كارمال قد تسلم السلطة تواً بعد انقلاب دموي على حفيظ الله أمين، والذي للإعراب عن ماركسيته، صبغ ما كان معبّداً من شوارع كابول باللون الأحمر... كانت الجيوش السوفياتية قد احتلت، لوقف ما كانت تعتبره زحفاً أصولياً، "جمهورياتها" الإسلامية، وكان الأميركيون، بأموال عربية طائلة، قد أطلقوا ظاهرة "المجاهدين" التي وصلت إلى كل هذا التطرف الذي بات يضرب العالم بأسره، وفي مقدمته من أنفقوا أموالهم على أسوأ تجربة عرفها التاريخ.كانت أناهيتا راتب زاده، التي لا أعرف إلى أي مصير انتهت بعد انسحاب الجيوش السوفياتية وانهيار الحلم الشيوعي في بلدٍ كان الأكثر تحصيناً ضد الشيوعية، تشبه زهرة قرنفل في حقل من الطلح والعوسج، وكان أكثر ما يقلقها أن نسبة الأمية في بلادها تصل إلى أكثر من 70 في المئة بين الرجال، وأكثر من 95 في المئة بين النساء، وكان ما يقلقها أيضاً أن صراع الغرب مع الاتحاد السوفياتي قد أَطلق، باسم الجهاد في سبيل الله، عنفاً سيتحول إلى غول متوحش لا يمكن السيطرة عليه، وكانت قد اعترفت بأنه لا مستقبل للشيوعية في بلد متخلف، فيه كل هذا المستوى من الأمية، وفيه قبلية فريدة لا يمكن أن تهضم ما ينادي به الشباب الذي عادوا تواً من الجامعات الغربية والأميركية، ومن بين هؤلاء حفيظ الله أمين السالف الذكر، والذين عادوا من دول المنظومة الاشتراكية بأفكار ماركس ولينين، وبما كانوا تلقنوه في المعاهد الشيوعية.لقد اعترفت أناهيتا راتب زاده بأنها هي و"رفاقها" يسبحون ضد التيار وأنهم سيجبرون على الرحيل مع القوات السوفياتية إن هي رحلت، ولقد قالت إن هذا هو رأي "الرفيق" بابراك كارمال ورأي "الرفيق" سلطان علي كشتمند، رئيس الوزراء، كما قالت أيضاً إن هذا هو الواقع وإن هذه هي الحقيقة، ولكن ماذا يمكن أن نفعل إذا كان الخيار هو بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة التي لا يهمها إلا تصدير العنف إلى الجمهوريات الإسلامية السوفياتية؟وحقيقة، فإن ما شاهدته بأمّ عيني وما سمعته، في هذا البلد الذي قادتني إليه مهنة المتاعب ثلاث مرات، جعلني أختار الشيوعية كحلٍّ اجتماعي وسياسي فقط، إذا كان الخيار هو بينها وبين ما أصبح يعرف بـ"طالبان" وبـ"القاعدة"، وبين كل هذا الإرهاب وكل هذا العنف الأهوج الذي تجري تسويته على أنه الدين الإسلامي، بينما الإسلام العظيم بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.لأكثر من ثلاثين عاماً، حتى بعد انسحاب الجيوش السوفياتية، وحتى بعد رحيل "الرفيقة" أناهيتا راتب زاده، و"الرفيق" بابراك كارمال و"الرفيق" سلطان علي كشتمند، وبعد اختفاء الشيوعية من هذا البلد، والتي كانت كغمامة صيفٍ انقشعت بسرعة... فإن هذا البلد، بلد جمال الدين الأفغاني، لايزال أمامه مشوار طويل حتى يصل إلى الاستقرار، فمشكلته أنه تحوَّل إلى ساحة صراع إقليمي ودولي لم يتوقف، وهذه المشكلة هي ما تعانيه دول عربية كثيرة، في مقدمتها العراق وسورية واليمن.
أخر كلام
أين أناهيتا راتب زاده؟!
09-04-2014