بات منتدى الإعلام العربي أهم محفل إعلامي في المنطقة بامتياز، مكرساً نفسه كآلية دورية لتشخيص الهموم والمشكلات الإعلامية، ومناقشتها من مختلف جوانبها، واقتراح سبل تجاوزها، في إطار يجمع بين الرصانة العلمية من جانب، والحيوية والمرونة من جانب آخر.

Ad

وإضافة إلى ذلك، فإن المنتدى يلعب دوراً مهماً ونادراً في البيئة الإعلامية العربية، عبر جائزة الصحافة السنوية، التي يمنحها لنحو 13 صحافياً عربياً كل عام، من خلال منافسة تتوافر لها أفضل قواعد النزاهة؛ وهو أمر يكرس قيم العمل الصحافي الرشيد، عبر مكافأة أنماط الأداء الجادة والمعيارية. ويجتهد القائمون على المنتدى عاماً بعد عام لإلقاء الضوء على أبرز القضايا التي تتفاعل في الإطار الإعلامي العربي، ويحرصون على اختيار الشخصيات الأقدر على مقاربة تلك القضايا، ضمن سياقها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبشكل يعالج اهتمامات معظم بلدان العالم العربي وأوضاعها الخاصة، التي تختلف من دولة إلى أخرى، ضمن السياق العربي العام.

وفي الدورة الثالثة عشرة للمنتدى، التي شهدتها دبي في الفترة من 20 إلى 21 من شهر مايو الجاري، تمت مناقشة عدد من أبرز القضايا الإعلامية العربية؛ وأهمها «التحريض والفتن» عبر وسائل الإعلام، والممارسات الإعلامية المسيئة التي تؤدي إلى «التصعيد الطائفي»، إضافة إلى طرح «سؤال المصداقية»، وتشريح الظواهر المرتبطة بما يسمى بـ»الإعلام الجديد»، وبحث مستقبل «الإعلام التقليدي»، خصوصاً الصحافة المطبوعة، وصولاً إلى «الحروب الافتراضية»، التي تشتعل في مواقع التواصل الاجتماعي، دون إغفال بحث المقاربة الإعلامية للتطورات السياسية الحادة، التي شهدتها بلدان التغيير في العالم العربي، على مدى السنوات الأربع الأخيرة.

إن اعتماد مقاربة نقدية لأداء الإعلام العربي على مدى جلسات المنتدى، وتوجيه الانتقادات الحادة لأنماط الأداء المسيئة، وتحليل عوار الممارسة الإعلامية، خصوصاً في ما يتصل بأدوار بعض وسائل الإعلام السلبية وتصرفاتها غير المسؤولة، أمر مطلوب ومحمود بطبيعة الحال.

لكن المشهد يبدو متناقضاً في بعض الأحيان حين يختم المنتدى كل دورة من دوراته بتكريم الصحافيين الفائزين بجائزته السنوية، وعرض الأعمال الجادة التي أهلتهم للفوز في تلك المنافسة، من بين آلاف الأعمال المتنافسة، قبل أن يتم تكريم «شخصية العام الإعلامية»، التي عادة ما تكون لأحد الإعلاميين البارزين، الذين أفنوا الجانب الأكبر من عمرهم، في خدمة الإعلام العربي وقضايا أمتهم.

إن حرص المنتدى على المقاربة النقدية الجادة، وإلقاء الضوء على أبرز المشكلات التي يعانيها الإعلام العربي يعطي الانطباع أحياناً بأن أوضاع الإعلام في عالمنا العربي مأساوية، وأنه غارق في الخطايا والخطل، بل يحمله المسؤولية أحياناً عن الكثير من المشكلات التي تتفاقم لأسباب عديدة تتعلق أولاً بالثقافة والسياسة والمجتمع وأدوار المؤسسات قبل أن تكون نتاجاً إعلامياً.

وبسبب تلك المقاربة، يبدو لمن يتابع المنتدى أن الإعلام العربي يطرح وجهاً واحداً تغمره المشكلات وتظلله أنماط الأداء الحادة والضارة، في حين تغيب العناصر الإيجابية التي بسببها يكتسب الإعلام أهميته في الفضاء المجتمعي العربي، والتي يتجسد بعضها في مشاركات الصحافيين المتنافسين.

إذا أردنا أن نكون منصفين فعلينا أن نحلل منظومة الإعلام العربي سنة بعد سنة تحليلاً متكاملاً، يتقصى نقاط الضعف في تلك المنظومة، ولا يتجاهل نقاط التميز، ويرصد المخاطر التي تطرحها، دون أن يغض الطرف عن الفرص التي تمنحها للدولة والمجتمع العربيين.

سيكون من الصعب تجاهل أن أهمية الإعلام في الإطار المجتمعي العربي تتزايد يوماً بعد يوم، وأن تلك الأهمية تنبع من عوامل عديدة، على رأسها بكل تأكيد الازدهار الكبير الذي تشهده صناعة الإعلام بشكل يبدو أوسع وأسرع وأكثر استدامة من النمو الذي تشهده معظم الصناعات العربية الأخرى. لقد زاد عدد وسائل الإعلام العربية في الآونة الأخيرة زيادة كبيرة ومطردة، وهي زيادة تبدو متوازنة عند النظر إليها على صعيد كل قطر من أقطار المنطقة، حتى تلك الدول التي لم تكن تعرف سوى قناتين تلفزيونيتين وثلاث صحف، صار لديها عشرات القنوات والصحف ومئات المواقع الإلكترونية.

وفي غضون ذلك، أظهر الواقع الإعلامي العربي استيعاباً مذهلاً لثورة الاتصالات، وبرهن على امتلاكه المرونة الكافية لتوفيق أوضاعه، في محاولته لمجاراة العصر الرقمي، وتغيير أنماط أدائه، بما يتناسب مع أنماط التعرض الجديدة. ففي الوقت الذي تتزايد فيه نسبة الشباب بين جموع المواطنين العرب، وترتفع نسبة التعليم، وتقفز معدلات استخدام «الإنترنت»، وتنتشر الهواتف الذكية انتشاراً كبيراً، نجد الإعلام العربي قادراً على ملاحقة تلك التطورات، وخدمتها، عبر تطويع التقنية والتحرير لمواكبتها، وفتح أسواق جديدة، وتلبية احتياجات جمهور واسع ومتطلب.

وبمواكبة ذلك، ارتفعت القدرات التقنية في عدد من وسائل الإعلام العربية، خصوصاً الفضائيات الإخبارية، والمواقع الإلكترونية، التي يتم تحديثها على مدار الساعة، والتي بات بعضها قادراً على منافسة الكثير من وسائل الإعلام العريقة والنافذة في دول العالم المتقدم.

سيكون من الصعب تجاهل أن فضائيات إخبارية عربية باتت منافساً شرساً لنظيراتها الناطقة بالعربية، والتي تبثها بلدان من خارج المنطقة، بحيث استطاعت أن تشكل مصدر اعتماد إخباري رئيس للمواطنين العرب، في ما يتعلق بالأخبار التي تقع في محيط اهتمامهم الحيوي.

علينا أن نتذكر أن الأوضاع لم تكن كذلك قبل عقدين، حينما كان المواطنون العرب يضطرون إلى التعرض لوسائل إعلام غربية ناطقة باللغة العربية، عند محاولة تقصي الأخبار التي تتعلق ببلدانهم أو بلدان المنطقة الأخرى.

ترتكب الفضائيات العربية الأخطاء الكبيرة، ويقع معظمها في انحيازات مهنية بالغة السوء، ويجير بعضها نفسه لخدمة مشروعات سياسية، ولا يظهر استقلالية ومهنية مناسبة، لكن التعدد في الفضاء الإعلامي العربي بات قادراً على الحد من آثار الانحياز الضارة. وفي معظم الأحوال سيجد الجمهور العربي نفسه قادراً على التزود بما يريد من الأخبار الجادة، التي تتحلى بقدر مناسب من المهنية، ومعرفة ما يهمه من تطورات، من خلال متابعة طيف عريض من الفضائيات، التي لا يمكنها جميعاً أن تتفق على أن تكتم خبراً مهماً، مهما بلغت خطورته، ولا يمكنها جميعاً أن تتفق على تشويه حقيقة ما، أو تزييف واقع قائم، بسبب تعدد انتماءاتها.

وبموازاة ذلك، ازدهرت صناعة الترفيه، بحيث بات لدى الجمهور العربي قدرة على التزود بمواد ترفيهية يمكن أن تنافس تلك التي تُعرض في الفضائيات الغربية في بعض الأحيان، وقد ظهر التنوع والاتساع الكبيران في ملفات الرياضة، والمواد المنتجة خصيصاً للأطفال، وتلك المتعلقة بالأبعاد الثقافية، دون أن يجور الحس الترفيهي المزدهر على الأجندة الإخبارية. إن قدرة بعض وسائل الإعلام العربية على متابعة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مهني جذاب جديرة بالإعجاب، خصوصاً أن ثمة برامج عديدة استطاعت أن تطوع المواد التي يحفل بها «الفضاء السيبري» لمصلحة المنتج الإعلامي التقليدي، الذي يبث عبر الفضائيات والإذاعات أو ينشر في الصحف. وثمة ما يستحق الإشادة أيضاً في مجال المتابعة الإخبارية للإعلام العربي؛ إذ باتت تلك المتابعة أكثر اهتماماً بـ»اللامركزية»، عبر تغطيات فريدة لأعماق البلدان العربية، ومناطقها الجغرافية البعيدة، التي كانت تعاني التهميش في ظل إعلام «مركزي»، ظل لعقود مهتماً بالعاصمة وبما يقوله المسؤولون.

تظهر تلك الفضيلة الإعلامية الجديدة في متابعة الاستحقاقات السياسية، وعمليات القصف والممارسات العنفية، كما تظهر في المتابعات الثقافية والاجتماعية؛ وهو أمر يعزز الخصوصية، ويحقق التوازن، كما يخدم فكرة الاندماج الوطني في كل قطر من الأقطار العربية في آن.

حسناً يفعل منتدى الإعلام العربي حين يفتح باب الفحص والدرس والانتقاد للممارسة الإعلامية العربية عاماً بعد عام، وحسناً سيفعل إذا ساعد في إلقاء الضوء على تطورات عديدة إيجابية يحققها الإعلام العربي، وتستحق أن نرصدها ونشيد بها.                             * كاتب مصري