إزالة الكربون العميقة

نشر في 29-01-2014
آخر تحديث 29-01-2014 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في البداية، ينبغي لنا أن نستعرض ما حدث في مختلف أنحاء العالم خلال الشهر الماضي، فقد احتلت موجة الحر التي ضربت أستراليا عناوين الصحف الرئيسة عندما تسببت درجات الحرارة التي بلغت 45 مئوية في تعطيل بطولة أستراليا المفتوحة للتنس. واضطر الجفاف الشديد في كاليفورنيا حاكم الولاية إلى إعلان حالة الطوارئ، وقتلت الفيضانات الكبرى في إندونيسيا العشرات وشردت عشرات الآلاف. وفي بكين تسبب الضباب الدخاني الناتج عن إحراق الفحم في إبقاء الناس داخل مساكنهم، وإغلاق الطرق السريعة، وتحويل رحلات الطيران، والواقع أن مثل هذه الأحداث تُعَد تحذيرات يومية للعالم: أفق قبل أن يفوت الأوان.

لقد دخلنا عصر التنمية المستدامة، وإما أن نصنع السلام مع كوكب الأرض، أو ندمر ازدهارنا الذي اكتسبناه بشق الأنفس، ويبدو الاختيار واضحا، ولكن أفعالنا تتحدث بصوت أعلى من الكلمات، فالبشرية تواصل على مسار يقودها إلى الخراب، وتدفعها أهداف قصيرة الأمد تتسم بالجشع والجهل.

إن قسماً كبيرا (وإن لم يكن كل) من الأزمة البيئية العالمية ينبع من نظام الطاقة العالمي القائم على الوقود الأحفوري. فأكثر من 80% من الطاقة الأولية في العالم تأتي من الفحم والنفط والغاز، وإن احتراق الوقود الأحفوري ينتج ثاني أكسيد الكربون الذي يعمل بدوره على تغيير مناخ الأرض، وكانت الجوانب الفيزيائية الأساسية معروفة لأكثر من قرن من الزمان.

ولكن من المؤسف أن قِلة من شركات النفط (إكسون موبيل، وكوخ للصناعات هي الأكثر استحقاقاً لسوء السمعة في هذا السياق) كرست قدراً هائلاً من الموارد لزرع البلبلة والارتباك حتى رغم الإجماع العلمي الواضح، ولكن من أجل إنقاذ الكوكب الذي نعرفه والحفاظ على إمدادات العالم من الغذاء ورفاهية الأجيال القادمة، فليس هناك من بديل عن التحول نحو نظام طاقة جديد منخفض الكربون.

ويتألف هذا التحول من ثلاثة أجزاء، فأولا، لابد من تحسين كفاءة استخدام الطاقة، وهذا يملي علينا أن نستخدم قدراً أقل كثيراً من الطاقة لتحقيق نفس المستوى من الرفاهية. على سبيل المثال، ينبغي لنا أن نصمم المباني بحيث تستغل أشعة الشمس ودوران الهواء الطبيعي لتقليل الطاقة المطلوبة للتدفئة والتبريد والتهوية.

وثانيا، يتعين علينا أن نتحول إلى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المائية والطاقة النووية والطاقة الحرارية الأرضية وغير ذلك من أشكال الطاقة التي لا تعتمد على الوقود الأحفوري، والواقع أن التكنولوجيا اللازمة لاستخدام هذه البدائل بأمان وبأسعار معقولة وعلى نطاق واسع بالقدر الكافي للحلول محل الفحم والنفط متوافرة بالفعل. وسوف يظل الغاز الطبيعي فقط (النوع الأقل تلويثاً للبيئة عند إحراقه من الوقود الأحفوري) يشكل مصدراً كبيراً للطاقة حتى منتصف القرن.

وأخيرا، بقدر ما نستمر في الاعتماد على الوقود الأحفوري، فيتعين علينا أن نعمل على احتجاز الانبعاثات الناتجة من ثاني أكسيد الكربون في محطات الطاقة قبل إفلاتها إلى الغلاف الجوي. ومن الممكن ضخ ثاني أكسيد الكربون المحتجز إلى مستودعات تحت الأرض أو تحت قاع المحيط أو تخزينها في أماكن آمنة، والآن تستخدم بالفعل عملية احتجاز وتخزين الكربون بنجاح على نطاق صغير للغاية (لتعزيز عمليات استخراج النفط من الآبار الناضبة في الأساس). وإذا ثبت نجاح استخدام هذه العملية على نطاق واسع، فإن الدول التي تعتمد على الفحم مثل الصين والهند والولايات المتحدة سوف يصبح بوسعها الاستمرار في استخدام احتياطياتها منه.

لقد أثبت الساسة الأميركيون عجزهم عن تصميم السياسات اللازمة لتحويل الولايات المتحدة إلى استخدام الطاقة المنخفضة الكربون، وتشمل هذه السياسات زيادة الضريبة على الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون، ودعم مشاريع البحث والتنمية الكبرى في التكنولوجيات المنخفضة الكربون، والتحول إلى السيارات الكهربائية، وفرض القيود التنظيمية اللازمة للتخلص التدريجي من كل محطات الطاقة العاملة بإحراق الفحم باستثناء تلك التي تستخدم وسائل احتجاز وتحزين ثاني أكسيد الكربون.

ورغم هذا فإن الساسة لا يسعون إلى تنفيذ أي من هذه السياسات بالقدر الكافي، وقد أنفق خصوم تغير المناخ المليارات من الدولارات للتأثير في صناع السياسات، ودعم الحملات الانتخابية من المدافعين عن الوقود الأحفوري، وإحباط المرشحين الذين يتجرؤون على الترويج للطاقة النظيفة. ويجتذب الحزب الجمهوري ككل دعماً مالياً هائلاً من خصوم إزالة الكربون، ويكافح هؤلاء المانحون بكل قوة حتى أصغر الخطوات نحو توظيف الطاقة المتجددة. ومن جانبهم فإن العديد من أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس الأميركي ينتمون أيضاً إلى المعسكر المؤيد للوقود الأحفوري.

والواقع أن قِلة من كبار اللاعبين في صناعة الطاقة، والذين لم يُظهِروا أي اهتمام بالحقيقة (ناهيك عن الاهتمام بأبنائنا الذين سوف يتحملون عواقب الحماقات التي نرتكبها في الوقت الحاضر)، تعاونوا واتحدوا مع روبرت مردوخ. والآن يسلك مردوخ، والإخوة كوخ، وحلفاؤهم نفس مسلك شركات التبغ الكبرى في إنكار الحقائق العلمية؛ حتى إنهم يستخدمون نفس الخبراء.

والوضع بشكل عام هو ذاته في مختلف أنحاء العالم، فحيثما تدافع جماعات الضغط القوية عن المصالح القائمة في صناعة الفحم والنفط، يخشى الساسة عادة التصريح بالحقيقة حول الحاجة إلى الطاقة المنخفضة الكربون. ولن نجد الساسة الشجعان الذين يصرحون بالحقيقة بشأن تغير المناخ في الأساس إلا في البلدان التي ليس فيها جماعات ضغط قوية تدافع عن الوقود الأحفوري.

ولنتأمل هنا مصير أحد الشجعان الذين يشكلون الاستثناء لهذه القاعدة، فقد حاول كيفين رود، رئيس وزراء أستراليا السابق، تنفيذ سياسة الطاقة النظيفة في دولته المنتجة للفحم. وكانت النتيجة هزيمة رود في محاولة إعادة انتخابه من المرشح الذي تمكن بفضل الدعم الذي وفره له تحالف يتألف من مردوخ وشركات الفحم من التفوق بفارق كبير على رود في الإنفاق على حملته الانتخابية. وأطلقت صحف مردوخ الصفراء دعاية مناهضة للعِلم في معارضة سياسات تغير المناخ ليس فقط في أستراليا بل أيضاً في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم.

والسبب الذي يجعل كل هذه الأمور مهمة هو أن الطريق إلى الإزالة العميقة للكربون بات مفتوحاً أمامنا، ورغم هذا فإن الوقت قصير للغاية، ويتعين على العالم أن يتوقف عن بناء محطات جديدة لتوليد الطاقة بإحراق الفحم (باستثناء تلك التي تنفذ تدابير احتجاز وتخزين ثاني أكسيد الكربون) وأن يتحول نحو الطاقة المنخفضة الكربون. وينبغي له أن يتخلص تدريجياً من محركات الاحتراق الداخلي في تصنيع كل مركبات النقل الجديدة بحلول عام 2030، والتحول إلى مركبات تعمل بالكهرباء، كما يتعين على العالم أن يتبنى تكنولوجيات موفرة للطاقة، وهذه التكنولوجيات متاحة ومن المنتظر أن تتحسن وتنخفض تكلفتها مع استخدامها، شريطة أن نتمكن من السيطرة على جماعات الضغط التي تناصر الوقود الأحفوري.

وإذا حدث هذا فإن الناس في مختلف أنحاء العالم سوف يكتشفون أمراً رائعا. فهم لن ينقذوا كوكب الأرض من أجل الأجيال القادمة فحسب؛ بل سوف يتمتعون أيضاً بأشعة الشمس والهواء النظيف الصحي. وسوف يسألون لماذا استغرق الأمر هذا الوقت الطويل رغم أن الأرض ذاتها كانت عُرضة لخطر محدق رهيب.

* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسات الصحية والإدارة، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بشأن الأهداف الإنمائية للألفية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top