أسوأ التحديات التي يواجهها رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، هي الاعتراضات الكبرى التي سجلتها ضد سياساته مرجعيةُ النجف الشيعية، وشعار "التغيير" الذي يرفعه، منذ أسابيع في صلاة الجمعة، رجال الدين الممثلون لآية الله علي السيستاني، والذي يفهمه الجمهور كدعوة مفتوحة لتغيير فريق الحكومة، وعدم منح المالكي ولاية ثالثة في الانتخابات التشريعية المقررة في 30 من الشهر الجاري، والتي ستنطلق غداً بالاقتراع الخاص المخصص لعناصر الشرطة والجيش والسجناء والمرضى.

Ad

ويستغرب الكثير من الخبراء في سيرة "حزب الدعوة"، أنه لم ينجح في المحافظة على الحد الأدنى من العلاقة الطبيعية مع السيستاني، مع أن الأخير لم يكن يطلب إلا أن يرضخ المالكي لدعوات الحوار الداخلي، ويتمسك باشتراطات التوافق السياسي، كتسوية تضمن التهدئة، ويقول معنيون إن الاختبار الأقسى لرئيس الحكومة، هو فشله في إرضاء المرجع الشيعي الأعلى.

ورفض رجال دين بارزون في النجف، في لقاءٍ مع "الجريدة"، الحديثَ علناً عن رغبة تغيير المالكي، مراعاةً لما أعلنته المرجعية من "وقوفها على الحياد" هذه المرة، بعد أن كانت في انتخابات 2005، تدعو بشكل شبه صريح إلى التصويت لمصلحة القائمة الشيعية الموحدة، ودعوتها الصريحة عام 2010 لانتخاب "القوائم الرئيسية" حذراً من "تشتت الأصوات الشيعية"، لكن ذلك كان يحصل في أجواء أقل استقطاباً، وقبل أن يختار المالكي خوض صراع "شيعي - شيعي" على النفوذ، بات أخطر من الانقسام الطائفي مع السنة والأكراد، لأنه في نظر رجال دين مقربين إلى السيستاني "المفصل الأخطر الذي يهدد بقاء العراق كدولة". ولذلك فإن هؤلاء يقولون بصراحة دون إذن بالنشر، إنه "لا ولاية ثالثة للمالكي"!

وهم يستذكرون بوضوح أن "نقطة اللاعودة" في العلاقة بين المالكي والسيستاني، كانت صيف 2012، بعد محاولة معارضيه سحب الثقة عن الحكومة. إذ شعر المالكي لأول مرة بأن مجلس النواب ليس مجرد تجمع لأحزاب طامعة في وزارات بحكومته، تلتزم الصمت مادامت مصالحها المالية مأمّنة، بل إن في البلاد تعدداً سياسياً يصعب ترويضه، ولا يمكن بناء "مجد شخصي" في ظله. ولذلك بعث المالكي موفدين إلى النجف أبلغوا المرجعية عزمَه على حل البرلمان، مستنداً إلى تفسير غامض لفقرة في الدستور، لكن النجف سارعت إلى رفض هذا التفسير الذي يخول المالكي حل البرلمان، معتبرة أن مجلس النواب هو "الخيط الرفيع" الفاصل بين الاستقرار النسبي للدولة، ومخاطر التمرد المسلح.

ويبدو أن المالكي اكتشف أنه ذهب إلى أبعد مما ينبغي، لكنه ظل اكتشافاً متأخراً، إذ أدركت المرجعية الشيعية حينها، كما يؤكد رجال دين نافذون، أن "أطماع الرجل أصبحت مصدرَ خطر على النظام السياسي التعددي، وأنه مشروع لمستبد سيدفع الشيعة ثمنه قبل السنة".

وإثر لقاء نادر جمع المرجع السيستاني برجل الدين الشاب مقتدى الصدر مطلع الشهر الجاري، بدأ ساسة شيعة يتحدثون بوثوق أكبر، عن تحالف "باركته المرجعية" يضم الصدر وعمار الحكيم وشريحة من العلمانيين الشيعة، سيعمل بعد الانتخابات على "التبرؤ" من الأخطاء التي ارتكبها المالكي مع السنة والأكراد، ويدعم مرشحاً شيعياً معتدلاً، سيجعل على رأس أولوياته إعادة بناء التوافق الداخلي، والتطبيع مع المحيط الإقليمي ولاسيما السعودية، وإقناع إيران بأن "مصلحة الطائفة" تتطلب عدم إلقاء العراق في أتون صراع إقليمي حتى لو كان الهدف دعم "حزب الله" ونظام الأسد، لأن شيعة العراق، ومعهم باقي الطوائف، يمرون بظروف هي الأصعب في تاريخهم، ويحتاجون إلى تجربة السلم والعلاقات الطبيعية مع المجتمع الدولي، بعد عقود من الحروب والنكسات.

وتستعد الأطراف الشيعية والكردية للتعامل بسلاسة مع هذا التحالف الجديد، ويبدو أن أطرافاً إقليمية ودولية تسلمت رسائل واضحة بهذا الخصوص ورحّبت بها، بينما يظل موقف طهران غامضاً، وهي تخشى أن يخرج العراق من خريطة التأزيم التي يقوم الإيرانيون بتوظيفها وقبض أثمانها، ويواجهون لأول مرة، موقفاً احتجاجياً ينطلق بتماسك من النجف ذاتها.