"المايسترو" هو نفسه، وكذلك المقطوعة الموسيقية والعازفون والمصفقون والذين يهزون رؤوسهم طرباً، فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أعاد ما كان وصف به المعارضة السورية، فالذين ثاروا على الرئيس الأوكراني المطاح به فيكتور يانوكوفيتش: "هُمْ مجموعات من الإرهابيين والمتطرفين والقتلة"، وذلك في حين أن الجيش الروسي الذي اجتاح منطقة القرم هو جيش مُخلِّص قد جاء لتخليص ذوي الأصول الروسية من هؤلاء القتلة والمجرمين وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه!

Ad

والمشكلة أن الذين تعاملوا مع الأزمة السورية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، قد تعاملوا مع هذه الأزمة الأوروبية والدولية المستجدة بالأسلوب نفسه وبالطريقة إياها، فهم في مواجهة غزو عسكري واحتلال بقوة السلاح وبجنازير الدبابات لم يجدوا ما يفعلونه سوى الدعوة إلى "الحوار" واقتراح تشكيل لجنة للتحقيق في ما جرى، وكل هذا وقد بادر البريطانيون إلى الإعلان مسبقاً أنهم لن يشاركوا في أي عقوبات ضد روسيا، وأنهم لا يؤيدون استخدام القوة العسكرية لردع موسكو، وإلزامها بالتراجع عما قامت به.

ولعل هؤلاء لم يدركوا أنهم لو تصدوا لهذه النزعة العدوانية ومنعوا فلاديمير بوتين من احتلال الشيشان بالقوة بعد تدميرها وذبح شعبها، ومنعوه أيضاً من فعل ما فعله في جورجيا عندما فكَّر هذا حتى مجرد تفكير في غزو أوكرانيا واحتلال جزء رئيسي منها وكأن العالم لم يدخل القرن الحادي والعشرين بعد ولا الألفية الثالثة، وكأنه لايزال في تلك المرحلة عندما كانت حدود الدول الضعيفة ترسمها جنازير دبابات الدول القوية، وكأن شريعة الغاب التي حكمت العصور الوسطى، وحكمت جزءاً من القرن العشرين، لاتزال سائدة حتى الآن وحتى هذه اللحظة.

ونحن في هذه المنطقة ألا يُذكِّرُنا العدوان الروسي على منطقة القرم، التي هي جزء لا يتجزأ من دولة مستقلة ذات سيادة هي أوكرانيا، بعدوان صدام حسين على الكويت وادعائه بأنها جزء من العراق، وأنها "المحافظة التاسعة عشرة"... ويقيناً انه لو لم يقف العالم، وفي مقدمته بعض الدول العربية، تلك الوقفة الشجاعة، ويُعِين الشعب الكويتي ويساعده على تحرير وطنه لما ارتدع هذا المغامر الأهوج، ولاختار إحدى الدول "الشقيقة" الأخرى ليعطيها رقم محافظة عراقية جديدة.

ثم إنه كان على الأوروبيين تحديداً أن يتذكروا أن تخاذلهم في مؤتمر ميونيخ عام 1938 هو الذي شجع أدولف هتلر على اجتياح منطقة السوديت ثم تشيكوسلوفاكيا السابقة كلها، والانطلاق لاحتلال العديد من الدول الأوروبية ومن بينها فرنسا، ولذلك ويقيناً ان فلاديمير بوتين إنْ هُو تمكن من ابتلاع اللقمة الأوكرانية فإنه سيكمل المشوار وسيواصل الزحف لاحتلال كل دول أوروبا الشرقية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي قبل زلزال بدايات تسعينيات القرن الماضي الذي غيَّر الخريطة السياسية في أوروبا.

لقد كان على الولايات المتحدة، التي مكَّنها سقوط الاتحاد السوفياتي بسبب رداءة الحزب الشيوعي الحاكم وتورُّم أمراض موسكو السرطانية وفشل التجربة الشيوعية كلها، من أن تصبح الرقم الرئيسي في المعادلة الكونية، أن تُدْرِك أن التجربة السورية وتخاذل واشنطن ورداءة المواقف الأوروبية هو الذي شجع فلاديمير بوتين على غزو أوكرانيا، وهو الذي سيشجعه على القيام بمغامرة أخرى إنْ لم يواجَه بحزم فعلي وحقيقي وإن لم يُجبَر على الانسحاب من منطقة القرم ويوقف تدخله الشائن في شؤون سورية الداخلية وفي الشؤون الأوكرانية.