مصر بوابة الليبرالية العربية الكبرى
- 1 -من سقط في مصر فقد سقط في العالم العربي كله، وسقط في العالم أيضاً، وهذه هي حال «جماعة الإخوان المسلمين» في مصر الآن، فسقوط «الإخوان المسلمين» في سورية عام 1982 في مذبحة حماة لم يكن له الدوي والأثر الكبيرين لسقوط «الإخوان المسلمين» في مصر الآن.
وطرد «جماعة الإخوان المسلمين» من السعودية عام 1992 على إثر وقوفهم الى جانب صدام حسين في عدوانه الأثيم على الكويت لم يكن بحجم دوي سقوط «جماعة الإخوان المسلمين» في مصر الآن.وهذا سببه قوة الإعلام المصري، واتساع دائرة متلقيه، وخبرته الطويلة في إدارة المعارك الإعلامية والسياسية.ومن هنا، ففي رأينا، أن «جماعة الإخوان المسلمين» قد خسرت مصر، وخسارتها لمصر تعني خسارة قاعدتها الكبرى، وبلد ولادتها ومنشأها، وأطول شارع جماهيري لها، وأكبر حجم، وحشد تملكه.ومن هنا أيضاً نرى الآن أن صوت «الإخوان المسلمين» في العالم العربي كله قد خفت إلى حد الانقطاع، وأن «الإسلام السياسي» بالتالي قد أصيب بضربة قاصمة في الظهر والوجه، وفي كل أنحاء الجسم. وتبين أنه من الصعب، أن تقوم لـ»جماعة الإخوان المسلمين» قائمة ما في العالم العربي بعد اليوم، وسيحتاج «الإسلام السياسي» إلى وقت طويل، وجهد كبير، ومال وفير، لكي يستعيد جزءاً مما فقده في مصر.- 2 -ولعل المحلل التاريخي والاجتماعي والسياسي يرى أن الدوي الكبير الذي أحدثته «جماعة الإخوان المسلمين» بسقوطها في مصر، له عدة أسباب، عدا ما ذكرناه أعلاه، وهؤلاء يرون أن من الممكن للأسباب التالية، أن تكون وراء هذا السقوط المدوي:1 - تكوين المجتمع المصري يشير إلى أن الشعب المصري شعب متدين، لكنه يكره حكم الجماعات الدينية التي تدَّعي أنها تحكم باسم الدين، وتدعو إلى «الإسلام السياسي»، ولا يريد تسييس الدين، بل يريد أن يظل الدين هُدى، وعدلاً، وإحساناً، وعقيدةً سماوية خالصة.2 - أن مصر كانت –وما زالت- منبع الفنون جميعها في العالم العربي، فلم يزدهر الشعر، والنثر، والتمثيل، والنحت، والرسم، والتصوير... إلخ في العالم العربي، كما ازدهر في مصر، فمن أراد من الفنانين العرب التقدم والشهرة هاجر إلى مصر وسكن فيها، ولم يحُل الإسلام بين الفن والدين رغم تزمُّت بعض شيوخ الأزهر في بعض الأحيان. 3 - لم يوجد في العالم العربي جاليات أجنبية مختلفة تعمل في كل المجالات بهذا العدد الذي كان في مصر قبل 1952، ولا شك أن المصريين استفادوا من قربهم واحتكاكهم بهذه الجاليات، وعلموا منها الشيء الكثير، وكانت هذه الجاليات بمنزلة التربة المُهيأة للزراعة الليبرالية المستقبلية.4 - عاشت مصر في القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين، وقبل تأسيس «جماعة الإخوان المسلمين» عام 1928، في أجواء من الحرية والانفتاح الفكري والثقافي عامة، لم يكن لها مثيل في أي بلد من بلدان العالم العربي؛ مما شجع مجموعة من المثقفين والمفكرين والسياسيين والفنانين في بلاد الشام والعراق والخليج على الهجرة إلى مصر بحثاً عن فرص أفضل وأوفر وأكثر حرية للتعبير، لا تتوافر في هذه البلدان، فهاجر إلى مصر المفكرون «الشوّام»... «شبلي شميّل، وفرح أنطون، ويعقوب صروف، وفارس نمر، ومي زيادة»، والخليجيون «عبدالله القصيمي»، والسياسيون «الشوّام»... «عبدالرحمن الكواكبي»، والصحافيون والمؤرخون «جورجي زيدان، والأخوان بشارة وسليم تقلا»، والفنانون «فريد الأطرش، وأسمهان، ونجيب الريحاني، وماري منيب»، وغيرهم كثيرون.5- عندما جاء «حزب الأحرار الدستوريين» الذي أنشأه أعضاء لجنة الثلاثين التي وضعت في عام 1922 أول مشروع دستور لمصر المستقلة، وفقاً لتصريح 28 فبراير 1922، وجد الليبراليون أمثال طه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومحمد حسين هيكل، التربة الملائمة والصالحة للزراعة الليبرالية. ومن المعروف أنه عَقِب فراغ لجنة الثلاثين من وضع مشروع الدستور في سبتمبر 1922، قرر أعضاؤها تكوين حزب جديد برئاسة عدلي يكن باشا، تحت اسم «حزب الأحرار الدستوريين»، تكون مهمته الدفاع عن الدستور. وكان من أبرز أعضائه عند تكوينه مدحت يكن باشا، ومحمد محمود باشا (أصبح رئيساً للوزراء في حكومة شكَّلها هذا الحزب)، وأصدر الحزب جريدة يومية تنطق بلسانه تحت اسم «السياسة». كان طه حسين أبرز كتابها، والشيخ علي عبدالرازق من أبرز مفكريها.وجاء تأسيس «جماعة الإخوان المسلمين» عام 1928 في مصر، كرد على هذا الحزب الليبرالي، وبوحي من الديوان الملكي آنذاك، الذي كان يضيق بأفكار هذا الحزب وزعمائه، ويكره بعض أعضائه كطه حسين، الذي رفض «الديوان الملكي» آنذاك، تعيينه كوزير للتربية والتعليم.6 - تعدد الأحزاب السياسية الليبرالية المصرية كـ«حزب الوفد»، و»حزب الأحرار الدستوريين»، و»حزب مصر الفتاة» (الحزب الاشتراكي)، و»حزب الأمة» (أسسه أحمد لطفي السيد)... إلخ، مما كوَّن مناخاً سياسياً نشيطاً نشأ عنه إعلام سياسي قوي وفعال. وكانت معظم الأحزاب السياسية الكبيرة أحزاباً ليبرالية، ما زالت امتداداتها قائمة إلى الآن في «حزب الوفد الجديد»، و«حزب التجمع» وغيرهما.- 3 -ومن هنا، تكون ثورة 30 يونيو قد أسقطت وفضحت أكبر وأضخم الأحزاب الدينية في العالم العربي، وهي «جماعة الإخوان المسلمين»، ولم تدع لهم أي غطاء سياسي أو شعبي، ولكن ظل الفقراء المصريون الكثيرون بحاجة إلى زيت، وسكر، ولحم، ورز «جماعة الإخوان المسلمين»، ويدينون لهؤلاء بالولاء الأعمى، وهم –غالباً- الذين يمارسون أعمال العنف في مصر الآن.ولكن، تظل مصر هي «البلدوزر» الضخم، الذي شقَّ الطريق لليبرالية العربية بإسقاطها «جماعة الإخوان المسلمين»، و»حزب النور» السلفي، لكي تسير الليبرالية العربية بأمان، وحكمة، وشجاعة، في الطريق الشعبي السوي، لكي تستعيد ما فقدته، وتُعيد ما كانت عليه في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بعد أن تكون قد تعلَّمت من أخطائها الماضية، فتتحاشى السقوط في مثلها، وتكف عن التمثل بالليبرالية الغربية المكروهة في العالم العربي، والمتهمة بالرذيلة والأخلاق الوضيعة.ومن هنا، ستصبح مصر -قريباً- بوابة الليبرالية العربية الكبرى، كما كانت دائماً في الماضي.* كاتب أردني