الرأي الآخر هو الرأي المختلف أو المغاير للذات، بسبب من الأسباب العديدة، سواء كان هذا المختلف فرداً من العائلة أو زميلاً من العمل أو شريكاً في الوطن أو أجنبياً خارجياً.

Ad

 إن شرعية الرأي الآخر تستمد من شرعية الرأي ذاته، لأن "الآخر" طبقاً لعلي حرب، يقبع في صميم "الأنا" ولأن "الأنا" تنبني أصلاً بالعلاقة مع العالم، والوعي بالذات يمر بالآخر، فلا شرعية للرأي نفسه ولا وجود له إذا صادرنا شرعية الآخر ووجوده، كما أنه يستحيل الحوار في غيبة الآخر والاعتراف به وبحقه في الحياة والاختلاف، يقول الله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، ويقول ابن المقفع "الدين تسليم بالإيمان، والرأي تسليم بالاختلاف، فمن جعل الدين رأياً فقد جعله خلافاً، ومن جعل الرأي ديناً فقد جعله شريعة".

 يقرر الفقهاء أن "الأصل في الإنسان الحرية"، بمعنى أن الحرية ليست من الحقوق المكتسبة حتى يعطيها إنسان لآخر أو يسلبها عنه، فالإنسان "حر" بأصل خلقته، كما أن "الحرية" ليست مجرد "حق" في المنظور الإسلامي، بل تتحول إلى "واجب" يحاسب عليه إذا فرط أو تقاعس فيه أدائها، كما أن الحرية لا تتجزأ، فهي شاملة لكل الحريات، وعامة لجميع الناس، وقد أقر الإسلام "الحرية الدينية" للمخالفين: معتقداً وعبادة "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً"، وهل تبقى للحرية من معنى إذا منعنا أصحاب الديانات الأخرى من ممارستها؟!

 إن سنّة الله تعالى قائمة على "التعددية" يقول تعالى "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" لا "الأحادية"، وأي إلغاء للرأي الآخر أو مصادرته أو قمعه يعد إلغاء للتنوع والإثراء والتطور والوصول إلى فهم أفضل أو حل أصوب، بل إن احترام الرأي الآخر، هو قوام الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي لأي مجتمع، كما أنه لا يمكن لمجتمع من المجتمعات أن يتطور ويتقدم بدون احترام "التعددية" في الفكر والرأي والتعبير.

 وقد كان فقهاء الإسلام سباقين إلى إقرار الاختلافات في الاجتهادات الفقهية، ووصفها بأنها "رحمة" للأمة، إذ لو كان رأياً واحداً لوقعت الأمة في "الحرج" المنهي عنه في القرآن، على أن أهمية الرأي الآخر في المجال السياسي أنه يرشد القرار ويحقق التوافق المجتمعي ويجنب المجتمع ردات الفعل غير الحميدة، بل يشكل "صمام" الأمان في مواجهة المخاطر والأطماع والتدخلات الخارجية، كما يقي المجتمع والدولة والنظام كوارث وهزائم وإخفاقات القرار الفردي.

 أما في المجال التنموي فتبرز أهمية الرأي الآخر في كونه يساعد في الوصول إلى الخطط التنموية الملائمة للمجتمع، كما أن غيابه هو العامل الأبرز في إخفاق خطط التنمية في تحقيق أهدافها، وأما في مجال "الاستقرار السياسي" فإن المناخ التعددي يشكل المتنفس الصحي العلني للجميع بما ينعكس إيجاباً على المجتمع في احتواء كل نوازع التمرد والعنف.

 وأما في "المجال الفكري" فالتعددية الثقافية ثروة حضارية للأمم، كونها إفرازا لتفاعل عقول بشرية عديدة ومتنوعة، ولذلك فإن أي توجه أو قرار للحجر على الرأي الآخر، في أي وسيلة من وسائل التعبير، يعد كارثة فكرية وحضارية، لأنه يسبب عقماً وجموداً فكرياً يهمش المجتمع ويعزله عن تيار الحياة المتدفق.

 علينا أن نؤمن بألا أحد يملك الحقيقة الكاملة أو الصواب المطلق في أي مجال من مجالات السياسة والفكر والاقتصاد والاجتماع والاجتهاد الفقهي، ولا يوجد من يستطيع الادعاء بأن رأيه هو الأخير في قضية ما، يقول الله تعالى "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"، آراء الإنسان في قضية ما نسبية ومتغيرة ومحكومة بقدرته العقلية والمناخ الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه، والحقيقة الكاملة عند الله تعالى، ومعنى ذلك: أن الاعتراف بشرعية الرأي الآخر هو سبيلنا الوحيد للوصول إلى جزء من الحقيقة الغائبة.

محنة الرأي الآخر: لا يزال الرأي الآخر في مجتمعاتنا، يعاني تقييداً وتضييقاً يصل إلى المصادرة والتجريم في بعض الحالات، الرأي الآخر متهم في مجتمعاتنا، يكفر تارة ويخون تارة أخرى، داعية الإصلاح السياسي لا يكاد يخلص من الاتهام في وطنيته، وداعية الإصلاح الاجتماعي متهم بتغريب المرأة، وداعية الإصلاح الديني متهم بخضوعه لإملاءات الغرب، ودعاة التسامح متهمون بالاستسلام والانهزام، ودعاة التنوير والإصلاح لا يكادون يأمنون على أنفسهم وأولادهم، لا من السلطات الحاكمة بل من الصغار المغرر بهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

 محنة الرأي الآخر تمتد بجذورها التاريخية إلى صراع الفرق الإسلامية في القرن الثاني الهجري حول "الفرقة الناجية"، لقد فرض الجمهور مذهبه على الساحة الفقهية باعتباره رأي الأكثرية، وهمش الرأي الآخر، ولن يسلم أصحابه من التفكير والتفسيق والزندقة، وللإنصاف التاريخي فإن الرأي الآخر لم يكن بريئاً– دائماً- من لعبة التكفير والتفسيق، فالخوارج القدامى كانوا أقلية لكنهم كفروا الأكثرية واستباحوا دماءها، وامتدداتهم في عصرنا تجسدها الجماعات المتشددة التي تكفر وترتكب المجازر وتردع الآمنين في العديد من مجمعاتنا، وتتمثل أيضاً بـ"الخطاب التخويني" للجماعات والتنظيمات المسماة بـ"المقاومة والصمود".

 فالرأي الآخر– المهمش تاريخياً ومجتمعياً– ما إن يتمكن ويقوى ويصل إلى السلطة حتى يمارس نفس الدور الذي كان يشكو منه عندما كان مهمشاً، وهذا يدلنا بوضوح أن العلة الحقيقية كامنة في الثقافة المجتمعية السائدة، بمعنى أنه بالرغم من التطورات الهائلة التي شهدتها مجتمعاتنا عبر قرن كامل، باحتكاكها بالحضارة الحديثة وفكر التنوير، فإنه لا توجد حتى اليوم قناعة مجتمعية حقيقية بالثقافة التعددية.

 * كاتب قطري