نقطة الانفجار العالمي في آسيا
حين تقبلت ألمانيا اللوم على أهوال الحرب العالمية الثانية وساعدت في قيادة الجهود التي دامت عقوداً من الزمان لبناء الاتحاد الأوروبي اليوم فلا وجود لمثل هذه الاتفاقات التاريخية بين البلدان الآسيوية، ونتيجة لهذا فقد غُرِسَت المشاعر الشوفينية في أجيال بعيدة زمنياً عن أهوال حروب الماضي، في حين لا تزال المؤسسات القادرة على تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسية في مهدها.
إن الخطر الجيوسياسي الأكبر في عصرنا ليس صراعاً بين إسرائيل وإيران بشأن الانتشار النووي، وهو أيضاً ليس خطر الاضطرابات المزمنة في قوس عدم الاستقرار الذي يمتد الآن من المغرب وصولاً إلى سلسلة جبال هندوكوش، وهو ليس حتى خطر اندلاع الحرب الباردة الثانية بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا.كل هذه مخاطر حقيقية بطبيعة الحال؛ ولكنّ أياً منها ليس بجسامة التحدي المتمثل بالحفاظ على الطابع السلمي لصعود الصين؛ ولهذا السبب، كان من المثير للقلق الشديد أن نسمع المسؤولين والمحللين اليابانيين والصينيين يشبهون العلاقة الثنائية بين بلديهما بالحال التي آلت إليها العلاقة الثنائية بين بريطانيا وألمانيا في عشية الحرب العالمية الأولى.
إن الخلافات بين الصين والعديد من جيرانها حول الجزر المتنازع عليها والمطالبات البحرية (بدءاً بالنزاع مع اليابان) ليست سوى غيض من فيض، فمع تحول الصين إلى قوة اقتصادية أعظم، فإنها سوف تعتمد بشكل متزايد على طرق الشحن لجلب وارداتها من الطاقة، وغير ذلك من المدخلات والسلع. وهذا يعني ضمناً الحاجة إلى إنشاء قوة بحرية قادرة على العمل في المياه العميقة لضمان منع إمكانية خنق اقتصاد الصين بسبب حصار بحري.ولكن ما تعتبره الصين حتمية دفاعية قد يراه جيران الصين والولايات المتحدة بوصفه عدواناً ونزعة توسعية، وما قد يبدو حتمية دفاعية في نظر الولايات المتحدة وحلفائها في آسيا- بناء المزيد من القدرة العسكرية في المنطقة على إدارة صعود الصين- قد تراه الصين باعتباره محاولة عدوانية لاحتوائها.تاريخيا، كان الصراع العسكري ينشأ دوماً كلما ظهرت قوة جديدة وواجهت قوة قائمة، فقد أدى العجز عن استيعاب صعود ألمانيا إلى حربين عالميتين في القرن العشرين؛ وكانت المواجهة بين اليابان وقوة أخرى مطلة على المحيط الهادئ- الولايات المتحدة- سبباً في جلب الحرب العالمية الثانية إلى آسيا.بطبيعة الحال، لا توجد قوانين صارمة تحكم التاريخ: فليس من المحتم أن تكرر الصين ومحاوروها أحداث الماضي، ولعل بعض العوامل مثل التجارة والاستثمار والدبلوماسية كفيلة بنزع فتيل التوترات المتصاعدة، ولكن هل تفعل ذلك حقا؟لقد سئمت القوى العظمى في أوروبا أخيراً ذبح بعضها بعضا، وفي مواجهة تهديد مشترك من قِبَل الكتلة السوفياتية، وتحت إلحاح من الولايات المتحدة، قررت البلدان الأوروبية بناء المؤسسات اللازمة لتعزيز السلام والتعاون، وأدى ذلك إلى إنشاء الاتحاد الاقتصادي والنقدي، والآن الاتحاد المصرفي، وربما في المستقبل الاتحاد المالي والسياسي.بيد أن مثل هذه المؤسسات لا وجود لها في آسيا، حيث تظل المظالم التاريخية القديمة بين الصين واليابان وكوريا والهند وبلدان أخرى جروحاً مفتوحة، حتى إن اثنين من أكثر حلفاء أميركا أهمية- اليابان وكوريا الجنوبية- ينخرطان في نزاع مرير حول "نساء المتعة" الكوريات اللاتي أجبِرن على العمل في بيوت البغاء العسكرية اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، على الرغم من اعتذار اليابان رسمياً قبل عشرين عاما.ولكن لماذا أصبحت مثل هذه التوترات بين قوى آسيا الكبرى أشد خطورة، ولماذا الآن؟ بادئ ذي بدء، انتخبت القوى الآسيوية مؤخراً أو تستعد الآن لانتخاب زعماء أكثر قومية من الذين سبقوهم، فكل من رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، والرئيس الصيني شي جين بينغ، ورئيسة كوريا الجنوبية باك كون هيه، ونارندرا مودي الذي من المرجح أن يصبح رئيس وزراء الهند المقبل، يندرج ضمن هذه الفئة.وثانيا، كل هؤلاء الزعماء يواجهون الآن تحديات هائلة نابعة من الحاجة إلى الإصلاحات البنيوية للحفاظ على معدلات نمو مُرضية في مواجهة القوى الاقتصادية العالمية التي تعمل على تعاطي النماذج القديمة، والواقع أن أنماطاً مختلفة من الإصلاحات البنيوية تشكل أهمية بالغة في الصين واليابان والهند وكوريا وإندونيسيا. وإذا فشل الزعماء في واحدة أو أكثر من هذه البلدان على الجبهة الاقتصادية، فإنهم قد يستشعرون قيوداً سياسية تجعلهم يلقون باللوم على "أعداء" خارجيين.ثالثا، يتساءل العديد من حلفاء الولايات المتحدة في آسيا (وأماكن أخرى) حول ما إذا كان "محور" أميركا الاستراتيجي الأخير في آسيا جدير بالمصداقية، فنظراً لضعف استجابة الولايات المتحدة للأزمة في سورية وأوكرانيا وغير ذلك من البقاع الجيوسياسية الساخنة، يبدو الغطاء الأمني الأميركي في آسيا بالياً على نحو متزايد، والآن تختبر الصين مصداقية الضمانات الأميركية، وهو ما من شأنه أن يثير احتمالات اضطرار أصدقاء أميركا وحلفائها- بدءاً باليابان- إلى تولي المزيد من احتياجاتهم الأمنية بأنفسهم.أخيراً وعلى النقيض من أوروبا، ففي حين تقبلت ألمانيا اللوم على أهوال الحرب العالمية الثانية وساعدت في قيادة الجهود التي دامت عقوداً من الزمان لبناء الاتحاد الأوروبي اليوم فلا وجود لمثل هذه الاتفاقات التاريخية بين البلدان الآسيوية، ونتيجة لهذا فقد غُرِسَت المشاعر الشوفينية في أجيال بعيدة زمنياً عن أهوال حروب الماضي، في حين لا تزال المؤسسات القادرة على تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسية في مهدها.الواقع أنها تركيبة قاتلة من العوامل التي تهدد في نهاية المطاف بتفجير الصراع العسكري في منطقة رئيسية من الاقتصاد العالمي، ولكن كيف قد تحول الولايات المتحدة محورها بأي قدر من المصداقية نحو آسيا على النحو الذي لا يغذي التصورات الصينية لمحاولات الاحتواء أو تصورات حلفاء الولايات المتحدة بأنها تسترضي الصين؟ وكيف قد تتمكن الصين من بناء القدرة العسكرية الدفاعية المشروعة التي تحتاج إليها أي قوى عظمى وتستحقها من دون إثارة قلق جيرانها والولايات المتحدة من أن يكون هدفها هو الاستيلاء على المناطق المتنازع عليها أو أنها تطمح إلى فرض هيمنتها الاستراتيجية على آسيا؟ وكيف قد تكون القوى الأخرى في آسيا على ثقة من أن الولايات المتحدة سوف تدعم مخاوفها الأمنية المشروعة، بدلاً من هجرها وتسليمها للهيمنة الصينية؟سوف يتطلب الأمر قدراً هائلاً من الحكمة من جانب زعماء المنطقة- والولايات المتحدة- لإيجاد حلول دبلوماسية للتوترات الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية العديدة في آسيا. وفي غياب المؤسسات الإقليمية الداعمة، فلا توجد خيارات أخرى كثيرة لضمان الغَلَبة للرغبة في السلام والرخاء وليس الظروف والدوافع التي تميل باتجاه الصراع والحرب.* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»