نقولا الحداد، الصيدلاني والأديب في آن، اللبناني والمصري في آن، عانق عصره عناقاً نهماً لم يدع معه موضوعاً من مواضيع زمانه يفوته أو يبدو له بعيد المنال. فالمتخرج في كلية الصيدلة في الكلية السورية، الجامعة الأميركية في ما بعد، والمهاجر لسنوات معدودات إلى الولايات المتحدة، عاد إلى القاهرة، نيويورك العرب آنذاك، مفتتحاً دار صيدلة ومؤلفاً بدأب وتفانٍ في شتى المسائل. كذلك بشر بالديمقراطية والاشتراكية، مدافعاً، على صفحات {الهلال} و{المقتطف} و{الرسالة} وغيرها من مجلات، عن قضية فلسطين، و{مقترفاً} بين الحين والآخر قصيدة أو ترنيمة.

Ad

روائي وعالِم

يقسم كتاب {نقولا الحداد... الأديب العالمي} إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. في المقدمة تذكر المؤلفة سبب اختيار الحداد لعرض سيرته، وفي الفصل الأول {سيرة الحداد من مصادرها} تورد الباحثة السيرة الذاتية لنقولا حداد بقلمه شخصياً، وبأقلام مجموعة من الكتاب، وما ورد عنه في الصحف.

في الفصل الثاني {نقولا الحداد عبر كتبه}، تبحث سلمى مرشاق سليم في كتبه التي وصلت إلى 30 كتاباً ومصنفة إلى فئتين رئيستين: القصة أو الرواية والعلوم. تنبثق عن القسمين تفرعات عدة، فالقصة، على سبيل المثال، قد تكون تاريخية، اجتماعية، سياسية، خيالية. وقد تشمل العلوم شُعَباً كعلم النفس وعلم الاجتماع أو العلوم البحتة.

ألّف نقولا الحداد الرواية بين 1903 ومنتصف القرن العشرين. ظهر بعضها في الكتب وبقي البعض الآخر طي مجلات تلك الحقبة. من الممكن تصنيفها برواية تاريخية أو سياسية أو خيالية، إذ تعكس الجو الشامي المتمصر أو الجو الأميركي الذي خبره، وتجتمع حول هدف واحد هو الأخلاق، وتدعو، عبر شخصياتها، إلى تبني أفكار اجتماعية يدعو الكاتب إليها ويؤمن بها.

في الفصل الثالث {مقالات نقولا الحداد في صحافة عصره}، تجمع الباحثة ما استطاعت من مقالات لنقولا الحداد الذي بدأت مسيرته مع الصحافة منذ 1892 في مجلة {الضياء}، واستمرت حتى بعد وفاته، إذ بقيت مقالاته تنشر في {الأديب}، {العلوم}، إلى جانب {الإصلاح} و{الرسالة} و{الضياء} و{المقتطف}، كلها مجلات احتضنت الحداد ونشرت مقالاته وآراءه. وفي الفصل الرابع {نقولا الحداد شاعراً} تجمع الباحثة بعضاً من قصائده التي كان ينشرها في مجلات عصره.

طاقة متعددة

في خاتمة الكتاب تعتبر سلمى مرشاق سليم أن الحداد طاقة متعددة الأوجه، وظاهرة فريدة مميزة الإنتاج، وصورة تجسد المثقف الطموح المتشعب الاهتمامات، الراغب في إثبات قدراته الفكرية، وهو في هذا نموذج لمثقف مطلع القرن العشرين الساعي إلى الجمع بين الثقافة العربية التقليدية والثقافة الغربية المتطورة.

تشير الباحثة إلى أن الحداد صاحب اطلاع واسع في مجالي الأدب والعلوم في الثقافتين العربية والإنكليزية، ولديه مقدرة على مزج الموروث والعلم الحديث مقدماً إنتاجاً محققاً، يتميّز بأسلوب سهل بسيط يدعو أحياناً إلى التساؤل: هل يمكن اعتبار الحداد أديباً بكل ما للكلمة من معنى؟

لا يخفي الحداد أن الهدف مما وضعه من روايات هو الإصلاح الاجتماعي والدعوة إلى المثل الأخلاقية والسياسية والاقتصادية التي يؤمن بها، وهو يرسم شخصياته بوضوح متحكماً بأقوالها وأفعالها، فهل الأولى رؤية وراء هذه الشخصيات عالم نفس أم عالم أخلاق؟

تلفت الباحثة سليم، إلى أنه في مجال الكتابة العلمية، سواء الاجتماعية أو الأخلاقية البحتة، لا شك في ما يحرزه الحداد من سبق كمي ونوعي، وما يثبته من جلد على البحث والتعمق، وما يبثه من دعوة متصلة إلى مواكبة تطور العلم والعالم، والاستزادة من الفتوحات العصرية.

يبقى الحداد الشاعر، والأرجح أن ثمة انتقاصاً من إبداعاته الأخرى في حال تمت نسبته إلى الشعر ومقارنته مع مجايليه من الشعراء. الأرجح أن الحداد نظم ما نظم استكمالاً منه لصورة الأديب الذي يجمع بين الشعر والنثر. وإذ خصص بعض منظوماته لأغراض علمية مثل تلك التي يصف فيها العين والقلب، فإنه يغلّب العقل، حتى في مواضيع {العاطفة} على ما سواه، وهذا ما يتجلى بوضوح، مثلاً، في رثائه إبراهيم الجمال أو فرح أنطون، إذ يتقدم {الحزن العقلي} على الحزن العاطفي.

لعل الحداد يبدو اليوم، لمن يطالع مؤلفاته، قطعة أثرية على رف مهمل من رفوف النهضة. شأنه في ذلك شأن كثر ممن سقط ذكرهم أو أُسقِط. ولكن الحداد الذي كان له أن يكتفي بمجال اختصاصه، الصيدلة، مع شيء من التوسع باتجاه الطب أو سواه من علوم الحياة، ولم يكتف، فهو علمٌ في همته العالية، وفي نهمه العلمي وفي غزارة إنتاجه: علمٌ يؤتمّ به في شعاب مرحلة لا يضيرها إن ظلِم حقها في الذكر بين مراحل التاريخ العربي الحديث. نقولا الحداد حجر أساس ومن شيمة حجر الأساس أن يُبنى عليه لا أن تؤخذ الصور التذكارية بجانبه.

«يا سيدي لقد زايلت شمسي»

يا سيدي قد زايلت شمسي       فاسكن معي في ليلي الدامس

لا مسعف عندي ولا سلوى      فاسكن معي يا منجد البائس

تمضي حياة المرء كالظل      يكمد مجدي بعد إشراق

تفنى البرايا في مدى العمر      فاسكن معي يا أيها الباقي

خذ بيدي لا أرهب الأعدا       لا أشتكي دمعاً ولا بلوى

لا أرهب الموت ولا اللحدا      ما دمت عندي ساكناً أقوى

أمام جفني المغمض اظهرلي     في ظلمتي أشرق إذا متُّ

يصِر مسائي في السما صبحا     فاسكن معي إن متُّ أو عشتُ