ظلمنا أحمد زكي (18 نوفمبر 1949 - 27 مارس 2005) عندما اختصرنا موهبته في أفلام بعينها مثل: {أرض الخوف} (1999)، {ضد الحكومة}  (1992)، {الهروب}  (1991)، {الإمبراطور}  (1990)، {زوجة رجل مهم}  (1988) و{البريء}  (1986)، وتجاهلنا باقة من الأفلام الساحرة التي لم نضعها في الحسبان، ومن ثم لم تنل القدر الذي تستحقه من الشهرة والاهتمام!  هذا ما حدث بالفعل مع أفلام سقطت من الذاكرة، ولا أبالغ عندما أقول إنها لا تقل إبداعاً وجمالاً، عن الأفلام المحظوظة التي أوليناها اهتمامنا بدرجة مفرطة، وكأنها الوحيدة التي جادت بها قريحة «العبقري» أحمد زكي، الذي أزعم أنه لم يكن سعيداً بإقصاء أفلام هي بمثابة حجر الأساس في مسيرته، وربما نقطة فارقة في حياته مثل: «الدرجة الثالثة» (1988)، «الحب فوق هضبة الهرم» (1986) «عيون لا تنام» (1981)، «موعد على العشاء» (1981)، «العوامة رقم 70» (1982) و{طائر على الطريق» (1981)؛ فالقارئ الجيد، والمُحلل المنصف لهذه الباقة يُدرك، من دون عناء، أنها كانت سبباً رئيساً في وضع أيدينا على الموهبة المتفردة التي يملكها أحمد زكي، فضلاً عن جرعة الصدق والتلقائية والاتحاد مع الشخصيات الدرامية التي يبرع في التسلل تحت جلدها، على اختلاف مشاربها وشرائحها؛ فقد كان «ملك التشخيص»، وصاحب قدرة أسطورية على إقناعك بأنه «البيه البواب» و{معالي الوزير» في آن، وأيضاً مُصفف الشعر في فيلم «موعد على العشاء» والمصور الفوتوغرافي في «اضحك الصورة تطلع حلوة» بل إنه «ناصر» و{السادات» معاً!   فيلم «طائر على الطريق» أحد الأفلام التي طالها ظُلم كبير، كونها لم تلق التقدير الذي تستحقه، رغم أن أحمد زكي أدى بطولته في وقت مبكر للغاية (1981)؛ إذ نجح في إجبارنا على الانبهار بأدائه، وقدرته الخارقة على تقمص شخصية سائق سيارة الأجرة، الذي نراه في اللقطات الاستهلالية، وهو يستيقظ مع أول ضوء نهار، ونُدرك أنه كان نائماً في سيارته على مقربة من شاطئ البحر، ونلمح في خلفية السيارة عبارة «العين صابتني ورب العرش نجاني»، وبكفه يمسح الضباب الذي غطى زجاج السيارة بسبب «الشبورة»، ويُغادرها ليُلقي بملابسه في الهواء، ويرتمي في أحضان البحر غير عابئ بأمواجه، ولا ببرودة مائه في ذلك التوقيت، ثم يذهب لتناول طعام الإفطار بينما شريط الصوت، الذي يُجيد المخرج محمد خان توظيفه، يُعلن، عبر أثير الإذاعة عن صباح يوم جديد .  أحمد زكي في الفيلم هو {فارس} ، بكل ما يحمله الاسم من دلالة، وهو صاحب الياقة المرفوعة في إشارة إلى زهوه بنفسه،  والصدر العاري في مواجهة الدنيا التي ظلمته... الفتى الذي يكافح ليحصل على قوت يومه، لكن شيئاً لا يمنعه من الحنو على الآخرين، والعطف عليهم، كما فعل مع الطفل الذي غسل له سيارته .

Ad

  في {طائر على الطريق}  التزم {زكي}  بالسيناريو، الذي كتبه بشير الديك، لكنه ترك لنفسه الحرية في أن يضع بصمته الخاصة على شخصية الشاب الشجاع المدافع عن الحق ... عاشق البحر، الذي اختار، في رحلة بحثه عن الحرية، أن يكون {طائراً على الطريق}  دائم الترحال، يلهو، كالطفل، بطائرة ورقية، ويطاردها، وكأنه يتعلق بالأمل ويلهث وراء المستحيل، ومن أجل هذا رفض الارتباط بامرأة (فردوس عبد الحميد) أخفت عنه أنها متزوجة؛ فهو {ابن البلد}  الذي يأبى الخيانة، ولا يرضى لنفسه أن يوصم بالدناءة، كما أنه مُتيم بالحرية، ويخشى أن يبددها الزواج، أو ينتهي به الحال معتقلاً في سجن الزوجية، لكن قناعاته تتبدل سريعاً بمجرد أن يتنامى إلى علمه أن المرأة فريسة في براثن زوج متغطرس، عصبي المزاج، ربما بسبب عقمه، لكنه يُكابر،  ويُداري عجزه بمعاملة زوجته، ومن حوله، بقسوة وغلظة، فينتفض الشاب بعدما تعلق قلبه بالمرأة، التي وجد نفسه فيها بينما رأت فيه {الفارس}  الذي استبدل جواده الأبيض بسيارة {بيجو{، ويستميت في الدفاع عنها، وتحريرها من قبضة الطاغية!  في تلك الفترة المبكرة يؤكد أحمد زكي أنه ممثل محترف؛ بما لديه من ملكات، على رأسها جسده المرن، وملامحه المصرية الخالصة، وأحاسيسه الرقيقة، ومشاعره المرهفة، التي لم تمنعه من شحذ أسلحته، على رأسها قوة التركيز، واستدعاء مخزونه الحياتي والإنساني، والإخلاص للشخصية، ليعيش دور سائق «بيجو{ بانفعالات تحسبها مندفعة أو منفلتة لكنها محسوبة بشكل كبير، فقد أحب أدواره، وأخلص لشخصياته، ولم يعرف، يوماً، الصنعة أو المبالغة، ومع طموحه غير المحدود في الوصول إلى الإتقان الكامل كان يعرف، بفطرته الدينية، أن «الكمال لله وحده»!   مرة أخرى أعيد القول إن في رصيد «العبقري» أحمد زكي الكثير من الأفلام الجيدة التي تحتاج إلى إعادة قراءة، بالإضافة إلى النقد والتحليل واكتشاف مواطن الجمال، ووقتها سيتجدد اليقين أن خسارتنا فادحة، وأننا لم نُقدر رجلاً (جاء في الزمن الخطأ) حقه الذي يستحقه، والمكانة التي تليق بموهبته !