ليست دعوة «للغباء»!
عدم النسيان، وهذا الاستذكار المتواصل هو «لا عفو» في الواقع. واللا عفو مرارة مستمرة يحملها الإنسان في داخل النفس. فذاك الذي لا ينسى أبداً إساءات الآخرين لم يسامح أياً منهم في الحقيقة، وسيظل بذلك يزيد من جريان المرارات في جوفه، واحدة تلو الأخرى.
التقيت منذ أيام بأحد الأشخاص في مناسبة اجتماعية. بادرني بالسلام مذكراً إياي بنفسه باعتبار أن أحدنا يعرف الآخر، فعجزت عن التذكر، ولكن بقينا نتجاذب الحديث بكل أريحية طوال الأمسية، وظللت في ذات الوقت أحاول أن أسترجع من يكون، حتى اهتديت بعد مدة ليست بقصيرة. كان أحد الذين تعرضوا لي بالإساءة الشديدة غير المبررة أكثر من مرة في شبكات التواصل الاجتماعي. لم يؤثر الأمر في تعاملي معه ليلتها، بل واصلت الحديث معه وكأن شيئاً لم يكن.لا أحاول من خلال هذه الحكاية أن أقدم لكم نفسي في لباس الشخص المثالي المتسامي، فما أنا إلا بشر له من الأخطاء الكثير، ولكنني أذكرها لأصف لكم كيف أن الله قد أعطاني ذاكرة لا تحتفظ أبداً بكثير من الأشياء. ذاكرتي مثل المغناطيس الذي لا يجذب إلا تلك الأشياء التي يصنفها في خانة المهم والضروري للبقاء على قيد الحياة، وكل ما عدا ذلك يدخل ويخرج كما يدخل ويخرج الماء عبر المنخل. ذاكرتي ضعيفة جداً، ولولا أني أستخدم القلم والمساعدات الإلكترونية، لسهوت عن كثير من المواعيد والالتزامات والأشياء المهمة حتى نحو أقرب الناس إلي.
هذا الشيء جعلني أنسى، في جملة ما أنسى بشكل سريع، كل الإساءات التي تطالني. وأنا هنا لا أتكلم عن "العفو" فهذا خلق ديني وإنساني يجب أن يحرص كل إنسان، بقدر ما يستطيع، على التحلي به دائماً وممارسته طمعاً في ما عند الله، ولكنني أقصد الجزء الخاص بنسيان ملابسات الإساءة وتفاصيلها، وربما حتى مصدرها.أقول ذلك وأنا أدرك أن القاعدة الدارجة بين الناس تقول: سامح واعف ولكن لا تنسى، وصولاً إلى أن البعض يرى أن من الغباء أن ينسى المرء الإساءات وأولئك الذين أساؤوا إليه. لكن تجربتي الشخصية في المسألة أظهرت لي، بشكل متكرر، كيف أن النسيان أراح نفسي من ذلك الشعور التلقائي بالمرارة والغضب عند تذكر الإساءات ومصادرها، فوجدت أن الذاكرة الضعيفة التي حباني الله بها، فظننتها "بلاء"، هي في الحقيقة نعمة جميلة.وعلى كل حال فأنا أعتقد أن عدم النسيان في حقيقته ما هو إلا درجة من درجات عدم العفو، فمن يستمر في استرجاع ذكرى الإساءة بتفاصيلها وملابساتها، حتى ولو قال أو ظن أنه قد عفا عمّن أساء، هو في الحقيقة كالمترصد المنتظر لأي علامات لتكرارها أو لغيرها، كي يتخذ موقفاً مضاعفاً كأنه يصفي من خلاله الحسابين؛ حساب الإساءة السابقة وحساب الجديدة!عدم النسيان وهذا الاستذكار المتواصل هو "لا عفو" في الواقع. واللا عفو مرارة مستمرة يحملها الإنسان في داخل النفس. فذاك الذي لا ينسى أبدا إساءات الآخرين لم يسامح أياً منهم في الحقيقة، وسيظل بذلك يزيد من جريان المرارات في جوفه، واحدة تلو الأخرى، حتى تجري منه مجرى الدم فيجد طعمها في فمه وأنفاسه، مفسدة عليه بذلك نقاء مشاعره وصفاء مزاجه ومنعكسة على أفعاله وتصرفاته مع الآخرين سالبة إياها كل أثر للعفوية والبساطة.هذه ليست دعوة "للغباء"، صدقوني، ولا للتحامق وترك الحذر بطبيعة الحال، بل حسبها أنها دعوة للعيش بسلام مع النفس ومع الآخرين من خلال وصفة سهلة للتخلص من المرارة التي يمكن لها أن تفسد على الإنسان هناءة حياته.اعفوا وسامحوا وانسوا لتستمروا في العيش بهناء وسلام، وأما المسيئون فشأنهم عند ربهم.