«الإسلاميون مرنون»

نشر في 29-12-2013 | 00:01
آخر تحديث 29-12-2013 | 00:01
 ياسر عبد العزيز يريد قطاع من السياسيين والمحللين في المنطقة والعالم أن يقنعنا بأن الإجراءات التي تتخذها الحكومة المصرية بحق تنظيم "الإخوان" وحلفائه في اليمين الديني المتطرف، في إطار مواجهتها للإرهاب، ستؤدي إلى تفاقم الأزمة والمزيد من العنف والدماء.

إن هذا التصور، على الأرجح، خاطئ، وليس هناك حجج مقنعة تؤيده.

العنوان أعلاه ليس لي، ولكنه للسفير الإسرائيلي السابق لدى مصر إسحاق ليفانون، الذي غادر القاهرة في أعقاب قيام متظاهرين باقتحام السفارة الإسرائيلية وإنزال العلم من عليها وحرقه.

حدث هذا في فترة حكم المجلس العسكري السابق، حيث تجمع متظاهرون بالآلاف أمام السفارة الإسرائيلية على نيل العاصمة، وظلوا ينددون بالدولة العبرية، بسبب مقتل جنود مصريين على الحدود الشرقية بنيران إسرائيلية.

ووصل الانفعال إلى غايته، فتسلق شاب مصري البناية العالية التي تقع السفارة في أدوارها العليا، وخلع العلم من عليها، وقام رفاقه بحرقه.

لم يتم إلقاء القبض على الشاب المتسلق، لكنه عومل كبطل من قبل الدولة ذاتها، حيث كرمه أحد المحافظين آنذاك، وأهداه شقة. حكم محمد مرسي سنة، هيمن خلالها "الإخوان" على كافة الأطر السياسية في مصر، ولم يحدث مثل هذا الذي حدث أبداً.

على العكس من ذلك تماماً، فقد رأى ليفانون، في حوار نشرته "الراي" الكويتية الغراء، في 25 مارس 2012، أن "الإخوان" لن يتخلوا عن "معاهدة السلام"، وأنهم برهونوا أن "لديهم مرونة".

يبدو أن ليفانون على حق، فالإسلاميون مرنون بكل تأكيد.

لقد نقلت وسائل الإعلام على نطاق واسع شريطاً مصوراً لمرسي حين كان قيادياً في تنظيم "الإخوان" قبل ثورة 25 يناير. كان مرسي يتحدث، في عام 2010، في حشد جماهيري بإحدى محافظات الدلتا، حين خاطب الحاضرين بصوت جهوري وشغف شديد مطالباً إياهم بأن يعلموا أولادهم "كراهية اليهود". في هذا الخطاب بالذات وصف مرسي اليهود بأنهم "أحفاد القردة والخنازير"، لكنه عاد وتراجع عن الكلام، بعدما أصبح رئيساً، ونفى تماماً أن يكون قد "قصد ذلك"، مرجعاً الأمر إلى "سوء الفهم، واقتطاع عبارات من السياق".

ليس هذا فقط، بل إن مرسي أرسل رسالة إلى نظيره الإسرائيلي آنذاك شمعون بيريس، فوصفه فيها بـ"الصديق الوفي"، وتمنى لدولة إسرائيل "التقدم والرفاه".

من "أحفاد القردة والخنازير إلى الأصدقاء الأوفياء، ومن إرضاع الكراهية إلى التمنيات بالتقدم والرفاه" هذا ما يمكن أن تعتبره بوضوح "مساحة المرونة" التي يتحلى بها الإسلاميون.

هناك عشرات الأمثلة على أن تلك المساحة أكبر من أي تصور. مرسي نفسه هو من تعهد بتطبيق الشريعة عشية انتخابات الرئاسة الأخيرة في مصر، لكنه لم يطبق منها شيئاً على الإطلاق حينما حكم لمدة عام كامل.

"الإخوان" هم من بنوا تمركزهم السياسي في الواقع العربي على معاداة الغرب والمناداة بقطع العلاقات معه واستهداف الولايات المتحدة، وهم أيضاً الذين وصفوا العلاقات معها بعد وصولهم للحكم بـ"التحالف الاستراتيجي".

"الإخوان" هم من رددوا هتافات "خيبر خيبر يا يهود... جيش محمد سوف يعود" على مدى ستة عقود، وعارضوا التطبيع و"السلام" وحرضوا على "الجهاد"، وهم الذين توسطوا في "هدنة" بين إسرائيل و"حماس"، وحافظوا على أمن الحدود الغربية للدولة العبرية طوال فترة وجودهم في السلطة.

لا يتعلق الأمر بالسنة الوحيدة التي وصل فيها "الإخوان" إلى الحكم في مصر، ولكنه يتعلق بتاريخهم الطويل الذي امتد ثمانية عقود.

تحالفوا مع البريطانيين، والملك، وعبدالناصر، ثم انقلبوا على هذا الأخير، وناصبوه العداء، وحاولوا قتله، ولما قمعهم، كمنوا، بلا صوت ولا نفس أكثر من 16 عاماً.

"الإخوان" رفضوا الخروج في تظاهرات 25 يناير 2011، التي تحولت ثورة بعدما انكسر جهاز الشرطة في يوم 28 من الشهر نفسه، وهو اليوم الذي أعلن التنظيم فيه مشاركته في "الثورة" بكامل طاقته.

ومع أنهم شاركوا منذ ذلك الوقت في العمل الاحتجاجي الواسع آنذاك، فإنهم أبقوا الباب موارباً طوال الوقت للتفاوض على مكاسب جزئية مع نظام مبارك، وهو التفاوض الذي تم خلاله المقايضة على دماء الشهداء.

وصل "الإخوان" إلى الحكم فأبدوا أكبر قدر من المرونة مع "القروض الربوية"، و"البكيني"، وإسرائيل والولايات المتحدة.

هذا ما فعله "إخوان" تونس أيضاً... فها هو راشد الغنوشي زعيم "النهضة" يقول إنه لا يعارض "البكيني"، ولا يريد فرض نمط معين من التصور الديني على التونسيين، لأن "الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء".

هذا الكلام المرن يقال عندما يكون الإسلاميون في الحكم، لكنهم مرنون بشكل كافٍ ليغيروه حينما يعودون إلى صفوف المعارضة.

بل هناك أيضاً ما هو أكثر من ذلك. كان عاصم عبدالماجد الذي تورط في قتل عشرات الجنود والضباط المصريين في محافظة أسيوط بصعيد البلاد في ثمانينيات القرن الماضي، يهدد معارضي مرسي في أيامه الأخيرة بالحكم بـ"السحق". يقف عبدالماجد على منصة في ميدان، ويقول للمصريين: "سنسحقكم"، و"أرى أمامي رؤوساً قد أينعت وحان قطافها... وإني لقاطفها"، وللمسيحيين: "لا تضحوا بأبنائكم". هدد عبدالماجد بالصوت الزاعق على "منصة رابعة" قبل فض التجمع حولها، في أغسطس الماضي، بالقول: "إذا سقط مرسي... سنعلنها دولة إسلامية".

لكن عبدالماجد كان مرناً إلى أقصى درجة. لم يسحق أحداً، ولم يقطف رأساً، ولم يعلن دولة، وكل ما فعله أنه حلق لحيته، وهرب إلى قطر، حيث أقام في أحد فنادقها. والآن يبدأ جولة جديدة من جولات "جهاده" بتقديم برنامج تلفزيوني على إحدى القنوات.

أما السلفيون فهم مرنون أيضاً بدرجة كبيرة. كانوا يعيشون في "طاعة مبارك"، ويرفضون "الخروج على الحاكم"، ليس لكونه فقط "لا يحول دون التعبد في المساجد وإقامة الشعائر"، ولكن أيضاً لـ"شوكته". وكانوا يحرمون الديمقراطية، باعتبارها بدعة، ويؤكدون أن الإسلام لا يعرف سوى البيعة لانتقال الحكم من حاكم إلى آخر. وكانوا يطالبون بتطبيق الشريعة، وإلغاء العلم والسلام الوطني، ويعتبرون الخروج على مرسي كفراً، لكنهم بالطبع، وبسبب المرونة، غيروا كل هذه الأفكار، وباتوا في الصف الأول في مناهضة مرسي وتأييد السيسي، كما أصبحوا أكثر احتراماً للسلام الجمهوري، وأخيراً فقد ارتضوا بما أعطتهم الجماعة الوطنية من تصورات دستورية عما يعتقدون أنه "الشريعة".

الإسلاميون مرنون كما قال ليفانون. وهذا الكلام لا ينطبق فقط على "الإخوان" والسلفيين، ولكنه يمتد أيضاً ليشمل تنظيمين مثل "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية"، اللذين أجريا مراجعات جاءت بهما من "إعلان الحرب على الطاغوت ودولته"، إلى "ادخلوا في السلم كافة"، و"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".

هذا الكلام ينطبق أيضاً على تنظيمات مثل "الناجون من النار"، و"التكفير والهجرة"، و"طلائع الفتح"، وغيرها، وهي تنظيمات اندثرت وخرجت من التاريخ تحت وطأة الملاحقات الأمنية.

"طالبان" أيضاً أظهرت مرونة، وكذلك فعل تنظيم "القاعدة"، وقبلهما فعل النظام الإيراني الثيوقراطي.

يوم الأحد الماضي، نشرت "الجريدة" مقالاً للرئيس روحاني يتحدث فيه عن العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة بكل مرونة وانفتاح ورغبة في المصالحة وبناء العلاقات المميزة.

سيكون من الصعب جداً على أي شخص أن يتخيل أن من يتحدث هو رئيس دولة دأبت على وصف الولايات المتحدة بأنها "الشيطان الأكبر"، وتعهدت بـ"مسح إسرائيل من الوجود" على مدى أكثر من 25 عاماً.

الإسلاميون مرنون... إنها حقيقة ساطعة لا تقبل الدحض. والدولة المصرية ستهزمهم إذا أرادوا كسرها، وستستوعبهم إذا أظهروا تعقلاً كما اعتادوا على مدى تاريخهم الملطخ بالـ"المرونة" والدماء.

* كاتب مصري

back to top