لم يرحل الشاعر سليمان الفليح من هذه الدنيا، إلا وقد حرص على أن يعبئ ذاكرة كل أصدقائه بكل ما يجعل هذا الصعلوك عصيّاً على النسيان.

Ad

عبّأ سليمان الفليح مساحات ذاكرتنا – نحن أصدقاؤه - بكل ما يجعل هذه المساحات تمتلئ فجأةً بالخزامى والنفل وأسراب القطا لمجرد تناقل الرعاة بشرى خبر بأن قطرة مطر على وشك أن تولد من رحم مزنة!

ملأنا أبو سامي ليس فقط بالشعر ولكن أيضا بالحكايات التي لا ينضب سراجها من الزيت أبداً، ومن المواقف وأفعال الصعلكة الكثير، وكلما استرجعت كل ذلك أكاد أجزم أنه فعل ذلك عن سبق إصرار وتعمّد ليقول لنا: لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا الدرب إليّ، ولن تظمأ مطاياكم!

من أكثر اللحظات خضرة في ذاكرتي مع سليمان تلك اللحظات التي شهدت ولادة بعض القصائد، ولأننا تسكعنا معاً كثيرا، وأحيانا تشاركنا أياماً بطولها معاً، فإن تلك اللحظات التي تخضبت بحناء شعره بيننا كثيرة، ويحدث أحياناً أن ينسى مسودة قصيدة ما عندي وأعثر عليها بعد مغادرته، وكثيراً ما كنت أشاغبه وأماطله في إعادة تلك المسودة، وغالباً ما يكون سقفي الأعلى في المساومة وجبة دسمة تجمع بعض الأصدقاء الآخرين، وغالباً أيضا ما ينتهي هذا الشغب بيننا بسلام وحصول كل منا على مبتغاه، باستثناء حادثتين رفضت فيهما رفضاً قاطعاً أن أعيد له مسودتين لقصيدتين بقيتا إلى أن رحل بحوزتي. وكان رحمه الله كلما ذكّرته بهما جدد محاولاته باستعادتهما بكل الوسائل التي لم تخل من الترغيب أو الترهيب، وتنتهي كل محاولاته بالفشل، وعند سؤاله لي عن سبب رفضي أقول له: أريد أن أبتزك بهما ميتاً، كما ابتززتك بالمسودات السابقة حيا!! فيرد: ولكني أعرفك نذلاً، فقد «تنفق» قبل أن أرحل أنا، فمن أين أحصل على هذه المسودات؟!

«ستجدها عند الورثة» أجيبه، فيستشيط غضباً ويقول: «من شدة نذالتك، أنا على يقين أنك لن تنجب سوى أنذال على شاكلتك»، أضحك كثيراً فأقول له: «طالما الحال كذلك، اطمئن إذن لن أرحل عن هذه الدنيا قبلك، هذا وعد». وينتهي الجدل بيننا عادة عند ذلك «الاتفاق»!

في اليومين الماضيين هاتفني بسام ابن سليمان الفليح وأخبرني أنهم عاكفون على جمع القصائد التي بحوزة اصدقائه ولم تنشر من قبل بنيّة إصدارها في كتاب، فأخبرته أن لدي مسودتين لنصين لم ينشرا من قبل، الأولى كتبت عام 86م والأخرى عام 89م، وزودته فعلاً بنصي المسودتين.

أنشر هنا نص إحدى المسودتين بعنوان «توهجات»، وأنقل الإهداء كما كتبه الراحل رحمة الله عليه، إلى مسك القصائد العذبة/مسفر الدوسري:

توهَّج وأضئ

ومدّ حبائل نورك للعتمة الزائلة

فهذا التجافي القميء مع الفجر

إن طال فيه القنوط، يخبئ قبل التوهج صفرته الحائلة

يتهيّأ مثل انقضاض الصواعق من شرفات العصور، لثورته الهائلة

فلا تنشغل كعمود الدخان بما يدفع الريح نحو الأزيز

وبرجاً من الأبنوس الحديدي كن،

فالمسافة أطول مما تظن

وقد تتعب القافلة

فانتظر يا صديق الأزقّة والوجبة الواحدة، أن نسدّد للبؤس جملتنا القاتلة،

فهوناً..

سيأتي زمان به تنهك البيد كل البغال،

وترقص تطوي القفار، مزهوّة بغرّتها الذهبية مهرتنا الصاهلة!