جلسة الاستجوابات الأخيرة تمخضت باختصار عن كشف التسلل للعديد من المواقف السياسية لأعضاء مجلس الأمة، المخضرمين منهم والجدد، والحكومة، بما لا يدع مجالاً للشك في أننا في وادٍ والممارسة الديمقراطية في وادٍ آخر، ومثل هذه الفجوة ليست وليدة الجلسة الأخيرة بل حلقة في دائرة عنكبوتية كانت، ولا تزال، تلف خيوطها على نفسها لدرجة يبدو أنها وصلت إلى حد الاختناق.

Ad

ونبدأ بالموقف الحكومي المرتبك والهزيل الذي شهد تناقضاً قد يسلم منه طفل سنة أولى سياسة، ففي الوقت الذي يعترض رئيس مجلس الوزراء على صعود منصة الاستجواب لعدم دستورية محاور استجوابه، يقبل وزير الصحة الصعود والمواجهة رغم إعلانه الصريح عدم دستورية بعض محاور استجوابه، فهل ينم ذلك عن مبدأ التضامن الوزاري أو حتى الفهم الدستوري الموحد للحكومة على أضعف الإيمان؟

أما عن مواقف النواب فحدِّث ولا حرج، ونستهلها بالمتشدقين بأن شطب محاور الاستجواب "سابقة" خطيرة، علماً بأن بعض هؤلاء النواب بشحمهم ولحمهم صوّتوا مع إلغاء محورين من محاور استجواب الصرعاوي والغانم للشيخ أحمد الفهد في اللجنة التشريعية لمجلس 2009! فهل مثل هذا الموقف رهان على ضعف ذاكرة الناس أو استخفاف بعقولهم أو انعدام للحياء السياسي أصلاً؟ ويمكن ترجيح الخيار الأخير لأن أمثال هؤلاء سبق أن صوتوا مع إعدام الاستجوابات الموجهة إلى رئيس الوزراء السابق وتأجيلها لوقت ينتهي معه عمر الفصل التشريعي.

وفي مقابل هذه المجموعة، فهناك من صوّت مع عدم دستورية محاور استجواب الرئيس، ومن ثم شطبها، في تناقض صارخ مع حالات مماثلة عندما كانوا يمتطون جياد الفروسية ويحاربون من أجل صون الدستور وحق المساءلة في المجالس السابقة، فهل ينم ذلك عن فهم جديد للدستور ومواده من قبل هؤلاء المخضرمين، أم أنها ردَّة سياسية عن المعارضة التي باتت "ما توّكل عيش"؟!

وتبقى الشريحة المضحكة، وجُلها من النواب الجدد من "الضايعين بالطوشة" الذين وقفوا في البداية مع شطب استجواب العدساني، وسرعان ما "قطّوه قري" في الاستجواب الثاني لوزير الصحة، فلم يكتفوا بتأييد الاستجواب بل وقعّوا طلب طرح الثقة، في محاولة يائسة لعدم وصفهم "بالحكوميين"! وهذه إحدى التناقضات الراسخة في ثقافتنا السياسية بأن رئيس الحكومة وهو المسؤول الأول عن سياسة الدولة وهو من اختار وزراءه، ينظر إليه بعين ويتخذ منه موقف، بينما الوزراء وهم منفذو سياساته ينظر إليهم ويتم التعامل معهم بمنظور مختلف تماماً، على الرغم من أن مفهوم التضامن الوزاري يعني أساساً أن رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول الأول عن محاسبة وزرائه، بل إن تأييده لأي وزير قبل الاستجواب يعني أنه شريك، بل وجميع الوزراء، في محاور استجوابه، ولذلك أليست إدانته هي إدانة جماعية لمجلس الوزراء ككل؟

وحتى لا يؤخذ علينا أننا نتشفى من المجلس والحكومة الحاليين، فطالما كانت هذه الممارسات سمة طبيعية في الفصول التشريعية المختلفة وكذلك تناقضت المواقف في العديد من الاستجوابات، فلم ينجح منها إلا القليل جداً، ولكن ها هو المجلس الجديد يكرس هذه الفجوة العميقة بين الديمقراطية كمبدأ والديمقراطية كممارسة، وهو المجلس الذي تسلق للوصول على أكتاف المجالس السابقة التي كانت تتهم بالتأزيم ووصف أعضاؤها بالمتمردين عن طاعة أولي الأمر!

وبالتأكيد سوف تستمر هذه المسرحيات، سواء تغيرت الحكومات بأشخاصها أو تغيرت المجالس بأعضائها أو تغير الناس بمزاجهم السياسي واختياراتهم، طالما بقيت الفراغات التشريعية التي لا تسد تضارب المصالح، ولا تحاسب أو تراقب ذمة السلطتين المالية بواسطة جهات محايدة ومستقلة على أقل تقدير!