هناك اتفاقٌ وشبه إجماعٍ على أن اتفاق جنيف الأخير بشأن "النووي" الإيراني خطوة هامة في الاتجاه الصحيح وفي الوقت الصحيح، لكن بشرط أن تتوفر له النوايا الحسنة. والحقيقة أنَّ معظم الذين يعتبرون هذا الذي جرى يوم السبت الماضي أهم تحولٍ في هذا المسار الخطير يشكِّون ويُشكِّكون في نوايا القيادة الإيرانية، ويرون أنها، وإنْ ذهبت مع هذا التحول حتى النهاية، فستُبقي على تدخلها الراهن في الشأن الداخلي لعدد من الدول العربية، ولن تتراجع عن مخططها التمددي في الشرق الأوسط كله.

Ad

وفي هذا المجال، إذا صحَّت هذه التقديرات، وهي في حقيقة الأمر صحيحة كل الصحَّة، فالواضح أن إيران تبني سياستها الراهنة والمستقبلية على أنَّ الرئيس باراك أوباما بات جاداً، في ظل تراجع اعتماد بلاده على النفط الخليجي، في تقليص نفوذ وتواجد الولايات المتحدة في هذه المنطقة، ولعل ما يؤكد هذا هو أنَّ الكونغرس الأميركي قد واجه اتفاق جنيف بغضبة غضنفرية وأنَّ الإسرائيليين واجهوه بالرفض القاطع ولم يعتبروه إنجازاً تاريخياً بل خطأً تاريخياً "سيدفع ثمنه العالم بأسره"!

لقد بادر الإيرانيون إلى توقيع اتفاق جنيف، الذي إنْ هو طُبِّق فعلاً فسيجردهم حتى من ثيابهم الداخلية، لإدراكهم أنَّ تراجعهم خطوة واحدة سيؤدي حتماً إلى تقدمهم أربع خطوات، وأنهم في النهاية، سواء طال الزمن أو قصر، سيتحولون إلى دولة نووية، ولهذا فإن عليهم أن ينحنوا للعاصفة من أجل تعزيز مواقعهم، ومن أجل ما يعتبرونه ارتداداً لأموالهم المحتجزة لدى الغرب ولدى الولايات المتحدة ليعززوا "صمود" شعبهم! وليحولوا دون انهيار نظام بشار الأسد الذي يعتبرونه أكبر رأس جسر لمشروعهم التمددي في هذه المنطقة التي يصرون على أنها مجالٌ حيوي لابد منه لدولة تريد استعادة أمجاد فارس القديمة، وتسعى لأن تصبح أحد الأرقام الرئيسية الكبرى في المعادلة الدولية.

والواضح أنَّ الإيرانيين لديهم قناعة راسخة بأن باراك أوباما جادٌّ في تقليص الوجود والنفوذ الأميركي في هذه المنطقة وأنه إذا ضمن فعلاً إفشال محاولة أن تصبح إيران دولة نووية فإنه سيبادر إلى سحب الأساطيل الأميركية من الخليج "الفارسي"! وسيجعل أميركا تتعامل مع هذه المنطقة على أنها ثانوية لا استراتيجية، وحقيقة فإن هذا هو ما أزعج الإسرائيليين وجعلهم يعتبرون اتفاق جنيف خطأً تاريخياً لا إنجازاً تاريخياً، وهو أيضاً ما جعل بعض العرب ينظرون إلى هذا الاتفاق بالكثير من الحذر والكثير من الشك "المبرر" والريبة.

ستبادر إيران حتماً، إذا نفَّذ فعلاً أوباما توجه إدارته لتقليص التواجد الأميركي العسكري والسياسي في هذه المنطقة وإذا قام فعلياً بسحب الأساطيل من الخليج العربي، الذي يتمسك آيات الله من ورثة الثورة الخمينية بأنه فارسي وسيبقى فارسياً، إلى تعبئة الفراغ على الفور، وهي ستُتْبِعُ هذا بكل تأكيد بالتمدد في كل هذه المنطقة العربية بالانطلاق من سورية، التي ستبقى تتمسك بنظامها هذا وستبقى تحارب حربه، وعندها فإن العرب سيجدون أنفسهم أمام جديد شديد الصعوبة من غير الممكن التخلص منه بسهولة، وبخاصة إذا تمكن الإيرانيون من إنتاج قنبلتهم النووية "الشيعية"، والواضح أنهم سيتمكنون من إنتاج هذه القنبلة إذا بقيت الأمور تسير على هذا الطريق وعلى هذا المنوال.

إنَّ هذا هو ما جعل إيران توقع اتفاق جنيف بكل هذه الأريحية وجعلها تعتبره انتصاراً تاريخياً يستحق أن يواجهه الشعب الإيراني بالأعراس والاحتفالات، وهنا فإنه صحيح كل الصحة أن دافعها الأول لإبداء المزيد من المرونة هو التخلص من العقوبات الاقتصادية وبسرعة، لكن دافعها الأساسي هو مراهنتها على انسحاب أميركي قريب من هذه المنطقة، وهو أيضاً على عدم ربط اتفاق الستة أشهر بتدخلها السافر في سورية وفي العراق وفي اليمن والسودان والعديد من دول الخليج العربي، وعلى أنَّ تجميد برنامجها النووي سيكون مؤقتاً، وأنها بالنتيجة ستحصل على القنبلة النووية التي ستمكنها من أن تصبح لاعباً دولياً رئيسياً... إن الولي الفقيه يراهن على ضعف باراك أوباما وعلى ضعف إدارته وإرادته، ولهذا فإنه أيَّد هذا الاتفاق الذي جرى توقيعه السبت الماضي، وهو أكثر عزماً وتصميماً على استكمال مشروعه الذري، وأكثر عزماً وتصميماً على استكمال مشروعه التمددي في هذه المنطقة العربية... وكل هذا إلا إذا وقعت معجزة فعلية وقلبت الأمور رأساً على عقب واستبدلت المعادلة الحالية بمعادلة أخرى جديدة!