الحزن عظيم لفقدانه، لكنه ليس كأي حزن، إنه حزن نبيل ممتلئ بالفخر والاحترام لتوديع قيمة إنسانية تغيب بجسدها لتستمر خالدة لكل من يحلم أو يسعى من أجل عالم إنساني أفضل. غاب الزعيم الإنساني نيلسون مانديلا في وقت مبكر من صباح أمس. منذ فترة كان يعاني وكان الجميع يتوقع أن ساعة مغادرته العالم بسلام قد باتت قريبة جداً، لكن أظن أن قدراً ملحوظاً من المفاجأة والحزن قد انتاب نفوس كل من تلقوا الخبر.
جنوب إفريقيا فقدت زعيمها وأباها كما يطلقون عليه، ظلوا يصلون من أجله، ترتيلاً ورقصاً وغناء، شباب صغير لم يعرف ويلات التمييز العنصري إلا من خلال الكتب يتحدث عن مانديلا وكأنه يعرفه ويعايشه رغم اختفائه عن الساحة منذ فترة، كيف استطاع هذا الرجل أن يكون هذا الإنسان؟ سؤال ليس من اليسير الإجابة عنه في سطور، ولكني بحق أنصح بأن يغوص من يريد أن يعرف في تاريخ هذا الرجل. "أن تكون حراً لا يعني مجرد التحرر من الأغلال، ولكن أن تعيش وفق نمط حياة تعزز من خلاله حرية الآخرين وتحترمها"، كلمات تختزل نضالاً دام نحو 30 عاماً أصبح خلالها المناضل والسياسي الجنوب إفريقي الأكثر شهرة واحتراماً في العالم نيلسون مانديلا رمزاً للحرية وأبرز المناضلين والمقاومين لسياسة التمييز العنصري. سطر الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا اسمه بحروف من نور في تاريخ جنوب إفريقيا، حتى تحول إلى ما هو أشبه بالماسة النادرة التي تزين بها الدولة جبينها، وقد تحول مانديلا من مواطن جنوب إفريقي يصارع نظاماً عنصرياً إلى مواطن عالمي ارتفعت هامته فوق كل الهامات، وبات لقاؤه حلماً وهدفاً، ليس فقط لقادة العالم بل لأي إنسان عرف ولو قليلاً عن هذا الرجل الذي استطاع أن يحول الغضب والظلم إلى طاقة إيجابية بنى بها وطناً جديداً، ورسخ مفهوماً إنسانياً راقياً، لقبه أفراد قبيلته بـ"ماديبا" Madiba وتعني "العظيم المبجل"، وهو لقب يطلقه أفراد عشيرة مانديلا على الشخص الأرفع قدراً بينهم، وأصبح مرادفاً لاسم نيلسون مانديلا، دائماً ما اعتبر مانديلا أن المهاتما غاندي المصدر الأكبر لإلهامه في حياته وفلسفته حول نبذ العنف والمقاومة السلمية ومواجهة المصائب والصعاب بكرامة وكبرياء. بدأ مانديلا رحلة النضال والمقاومة مبكراً، منذ عام 1942 انضم إلى المجلس الإفريقي القومي الذي كان يدعو إلى القضاء على التمييز العنصري وكان عمره وقتها 24 عاماً، ودفع ثمناً غالياً، إذ قضى عمراً طويلاً بين جدران السجون، أصبح النداء بتحرير مانديلا من السجن رمزاً لرفض سياسة التمييز العنصري، في السجن كان الرجل حراً أكثر من العديد من الطلقاء، فخلال 27 عاماً قضاها خلف القضبان، قرأ الكثير من الكتب بلغة جنوب إفريقيا (الإفريكان) وأكمل تعليمه في الحقوق بنظام الدراسة عن بعد، وأهم ما قام به هناك فتح مفاوضات سرية مع سجانيه، وأمضى مانديلا 18 عاماً في سجن على جزيرة «روبن آيلاند» قبل نقله في عام 1982 إلى سجن «بولزمور» في كيب تاون، ثم نُقل إلى سجن «فيكتور فيرستر» في مدينة بارل المجاورة، وفي عام 1985 عُرض على مانديلا إطلاق السراح مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة، إلا أنه رفض العرض، وبقي في السجن حتى 11 فبراير 1990، حصل نيلسون مانديلا مع الرئيس فريدريك دكلارك في عام 1993 على جائزة نوبل للسلام، وفاز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في أول انتخابات متعددة الأعراق مع منح حق التصويت الكامل في 27 أبريل 1994، ثم تم تنصيب مانديلا أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا في 10 مايو 1994 وأباً للأمة. لعل من أجمل ما قيل في الرجل حين خروجه من السجن، جاء على لسان الأسقف ديسموند توتو، الحائز أيضاً جائزة نوبل للسلام: "لقد خرج من السجن شخصاً أعظم بكثير مما كان لدى دخوله... شخصاً يتحلى بالرحمة، رحمة كبيرة حتى تجاه مضطهديه، لقد تعلم كيف يفهم هفوات البشر وضعفهم وكيف يكون أكثر سخاءً على الآخرين"، لقد أصبح السجين رئيساً يحمل خطة للمصالحة الوطنية في جنوب إفريقيا، يومها ألقى كلمة قال فيها: "ندخل في عهد لبناء مجتمع يكون فيه جميع مواطني جنوب إفريقيا، السود والبيض على السواء، قادرين على السير برؤوس شامخة من دون أن يعتصر قلوبهم أي خوف، مطمئنين إلى حقهم الثابت في الكرامة الإنسانية... أمة قوس قزح بسلام مع نفسها والعالم". رحل "ماديبا" في سلام، نعاه رئيس بلاده جاكوب زوما قائلا: "نلسون مانديلا فارقنا، إنه الآن بسلام، خسرت الأمة ابنها الأكثر تأثيراً، مات بسلام، لقد خسر شعبنا أباه". ويضيف وكأنه يتحدث بلسان البشرية: "إنها لحظة حزن عميق، سوف نحبك دائماً ماديبا".
أخر كلام
إنه الآن بسلام عندما تتوحد البشرية في لحظة حزن نبيل
07-12-2013