حين دخلتُ مدينة بولونيا كان إرهابيو «داعش» والبعث يدخلون الموصل، فقرأت في هذا فألاً شيطانياً. كنتُ بالغ القلق في مدينة ﭽسيناتيكو، على الساحل الأدرياتيكي، حيث المهرجان الشعري الذي دُعيت إليه. موزعاً بين أخبار الإنترنيت والصيف الإيطالي، بين عتمة العمى الديني وإشراق الناس عراةً على الساحل. بين كوابيس عراق يأبى أن يبلغ ساحل الأمان، وأحلام قصائد وشعراء يطمعون بالمغامرة.
حين قرأتُ قصائدي على الجمهور، جاء من فهمها مراثي ونذيراً بالمناسبة. فأوضحت له أنها نُذرٌ ومراث كُتبت عبر نصف قرن من الزمان، في بلد لم يأكل أهله الخبز يوماً دون مرارة. فهذه المناسبة لها مثيلات في كل يوم، كل شهر، كل عام.أنا أحب السمك، مذاقاً، رائحةً وشكلاً. ومدينة ﭽسيناتيكو مدينة سمك. والمهرجان الشعري فيها عنوانه «شعراء المرفأ». رائحة البحر وأسماكه، إذن، في كل ركن، ولكن من ينتزع رأسي من رائحة الكراهية التي تلاحقني مع حفنة الأخبار التي أقرأها كل ساعة؟ كراهية باسم الوطنية، كراهية باسم القومية، كراهية باسم الدين، كراهية باسم الطائفة، كراهية باسم المبدأ.«شعراء المرفأ» مهرجان عريق يُقام في هذه المدينة، ويمتد إلى مدن أخرى: ﭙولونيا، ميلان وﭬينيسيا. وصدور مختارات شعرية لي بالإيطالية هذه الأيام وفّر لي فرصة القراءة في ﭽسيناتيكو، ﭙولونيا وميلان. وفرصة التعرف على أصدقاء كُثر. أُفضّل أن يقرأ قصيدتي شاعر إيطالي، وأقرأها بعده بالعربية. يهضم الجمهور المعنى الذي تبقى بعد غياب الجملة العربية وموسيقاها، وأحاول أنا مع نصي العربي أن أستعيد ما غاب. فيطرب الجمهور، ويهتف: ما أجمل موسيقى العربية! قراءات خمس عجّلت في بحة صوتي، وهي بُحة مناسبة لأصداء العبوات الناسفة، والدم النازف: هيئوا وطناً غيرَ هذا المضرّجِ في دمهِ، حُلَّةً للكرامةِ غيرَ الرداءِ المهلْهلِ، عصراً على قدْرِ كارثتي. مالكمْ، كلما رحتم للقتالِ تعودُ أناشيدُكم دونَكم؟ ﭙولونيا مدينة جامعية، وعلى مقربة من مبنى المسرح الكبير تنبسط «ساحة ﭬيردي»، عادة ما يجتمع فيها الطلبة، شباناً وشابات، مع أول المساء الصيفي العذب. بصحبةِ حقائبهم والالتماعات الناعسة للقناني والكؤوس. وحولهم وخلالهم تعوم أشباح سود لبائعي الحشيشة ولصوص الغفلة، الذين ينهبون كل ما غفل عنه الشبان: دراجات هوائية، حقائب، تلفونات نقالة، كمبيوترات. حين سألت عن هويتهم قيل لي ان معظمهم جزائريون ومغاربة، فعجبت لمقدار الشبه بينهم وبين لصوص اليقظة في وطني البعيد. وحده الفساد الضارب من يسّر السبيل لمجيء القتلة. وحدها الأحزاب العقائدية التي انتهكت حرمةَ مؤسسة الدولة الديمقراطية. الديمقراطية تُبنى بالأحزاب السياسية، لا بالأحزاب العقائدية. الأحزاب السياسية يُلهمها العقلُ والعلم. وخلافاتُها مسعى للأفضل. الأحزاب العقائدية أديان مقدسة لا يقدر أن يمسها العقل. وخلافاتُها مخاضةُ دماء. حين وصلت ﭙولونيا من لندن، استقبلني ناشر كتابي، وفي المساء دعاني على العشاء في رصيف مطعم محلي. المطبخ الإيطالي متنوع، ولكن تنوعه ينحصر في حقلين: حقل الباستا والتنويع عليها، وحقل البيتسا والتنويع عليها. فاخترت من حقل البيتسا شيئاً لا يخرج عن دائرة الخبز والجبنة والطماطم إلا بالشكل. كنا نتحدث عرضاً عن أساتذة الجامعة وطلبتها، ثم أشار الناشر عرضاً أيضاً إلى مبنى يرتفع فوقنا، وقال: «في شقة هنا يقيم رئيس الوزراء السابق رومانو ﭙرودي (96 ـ 1998)، وهو إنسان بالغ التواضع» بعد العشاء دخلنا ثانية في حديث الأساتذة والطلبة، وفي لحظة قفز الناشر مع نسخة من كتابي الشعري، قائلاً: «هذه مناسبة طيبة»، واندفع باتجاه نفر على مبعدة. أعطى النسخة لرجل أشيب حلو الوجه، بالقميص والبنطلون، وتحدث معه. فقلت لنفسي: «أستاذٌ لا شك، له شأن بالأدب.» الرجل الأشيب نظر إليَّ من بعيد ثم خطا باتجاهي. وقفت له مرحباً، فأعطاني النسخة وطلب إهداءً وتوقيعاً، وأكد أنه سيقرأها بحرص. سألته عن اسمه فقال «ﭙرودي فقط». فكتبت: «إلى ﭙرودي قارئاً عزيزاً وصديقاً»، ووقعت. التقط لنا الناشر صورة فوتوغرافية. حين غادر نظر لي الناشر قائلاً: «ألم أقل لك أن رئيس وزرائنا بالغ التواضع؟».
توابل
مع «شعراء المرفأ»
26-06-2014