الجنرال «الش» يحكم مصر

نشر في 02-03-2014 | 00:01
آخر تحديث 02-03-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز  لو كتبت كلمة "الالش" على محرك البحث "غوغل"، لظهر لك نحو ثلاثة ملايين رابط، أي ثلاثة ملايين موضوع منشور يتحدث عن هذا المصطلح، أما إذا بحثت على موقع "يوتيوب"، فسيظهر لك نحو ألفي نتيجة؛ أي ألفي مادة مصورة خاصة بالموضوع نفسه.

من بين العناوين التي ستجدها تحت اسم "الش" كلام من نوع: "الش جامد"، و"الش رخم"، و"الش أصلي"، و"صباح الالش"، و"ستديو الالش"، و"لقد وقعنا في الالش"، و"احنا في زمن الالش"، و"يوم الالش العالمي".

حاول أحد المنتديات الرائجة تعريف كلمة "الالش"؛ فقال إن هناك "نوعين من (الالش): (الش) عادي، و(الش) هادف. بالنسبة إلى (الالش) العادي، فكان فيه وخلص، أما (الالش) الهادف؛ فله هدفان: الهدف الأول هو الضحك أو إصابة السامع بالشلل، أما الهدف الثاني... فطلع تسلل".

يمكن أيضاً أن تجد المعنى ذاته تحت كلمة "قلش"، ورغم أن المصريين ينطقون القاف ألفاً إذا تحدثوا العامية، فإن بعض الفعاليات "الجادة" التي تناولت الظاهرة نفسها عبر عنها بكلمة "قلش" مستخدمة حرف القاف.

من تلك الفعاليات مثلاً محاضرة لـ"القلاشين الجدد" على "يوتيوب"؛ وفيها يحاول أحد "المتخصصين" إعطاء نصائح محددة للراغبين في العمل في مجال "الالش". ومن تلك النصائح مثلا، كما قال، "ضرورة أن يتابع (الالاش) التطورات السياسية بدقة واهتمام بالغين، لأن (الالاش) الجيد يجب أن يكون ملماً ومطلعاً على الأحداث المهمة والتصريحات السياسية للقادة والمسؤولين والشخصيات العامة، ليستخدمها في (الالش)... والتجديد ضرورة أيضاً في هذا الصدد".

كما ستجد أيضاً تصنيفاً لأهم "الالاشين"، ومحاولات للتعليق على أسلوب كل منهم وتمييزه عن أسلوب نظرائه، إضافة طبعاً إلى بعض المحاضرات عن كيفية التفرقة بين "النكتة العادية"، و"السخرية" من جهة، و"الالش" من جهة أخرى.

تدخل المفردة اللغة العامية المصرية إذن، وتتمركز فيها بقوة، وتصبح جزءاً من القاموس الذي يستخدمه المصريون، خصوصاً جيل الشباب منهم؛ وهو أمر لا يقتصر على طبقة بعينها، وإن كان يستفحل في الطبقة الوسطى العريضة والطبقة العليا أيضاً.

وبموازاة هذا الانتشار المذهل في ثقافة "الالش" ضمن المجال العام المصري، فإن هناك صناعة لـ"الالش" بدأت تزدهر ويتزايد الاهتمام بها، كما يبدو أنها أيضاً تجلب الكثير من الأموال.

ليس المقصود بصناعة "الالش" ما بات يقوم به بعض "نجوم" السينما الحالية في مصر مثل "محمد هنيدي"، و"محمد سعد" الشهير بـ"اللمبي"، و"أحمد حلمي" فقط، والذين أخذ بعضهم يحول النسق الإبداعي المركب للحالة السينمائية، في بلد عرف صناعة سينما محترمة وملهمة على مدى عقود طويلة، إلى مجرد "وصلات من الإيفيهات الفجة غالباً والرخيصة أحياناً"، ولكن المقصود أيضاً هو بزوغ وازدهار "صناعة الش" موازية على الفضائيات وموقع "يوتيوب".

أكثر الإعلاميين تحقيقاً للمكاسب المالية، واستمتاعاً بالشهرة والمجد والرواج في مصر اليوم ليس سوى أحد "الالاشين" الكبار... إنه "باسم يوسف".

يمثل "باسم" ذروة "الالش" في مصر، وتمام صناعته، واكتمال أركانه، وقمة ازدهاره، وهو بات ملهماً لجيل كامل من "الالاشين"، الذين وجدوا أن لعبة اصطياد تناقض ما لشخص معروف أو اصطناعه وتوسله، أو إعادة تركيب مشهد أو جملة، مع ربطها بحدث أو تعبير مواز، أو قلب المواقف، أو التكرار الهزلي، أو اللعب على الإيحاءات والمدلولات المزدوجة للكلمات، يمكن أن يصل بشخص ما إلى قمة الثراء والمجد.

لقد أقامت بعض القنوات الفضائية المعروفة مسابقات تحت اسم "ستاند أب كوميدي"، لكنها في الواقع لم تكن سوى "مباريات في الالش" بين مجموعة من الراغبين في تحقيق النجومية عبر الصناعة المزدهرة الجديدة.

وعلى موقع "يوتيوب"، ستجد كل يوم أشخاصاً يصورون حلقات هزلية تعتمد صيغة "الالش"، ويجتهدون في ترويجها وتأمين أكبر قدر من التفاعل معها، على أمل أن يصبحوا "الاشين" محترفين.

"الالش" في مصر اليوم رياضة وطنية أهم من "كرة القدم"، وصناعة مزدهرة لا تجاريها صناعة، وأسلوب تعامل في طبقات عدة، ومحاولة للسخرية من كل شيء، وانتقاد كل شيء، ورفض كل شيء، بداعي أن "الالاش" معصوم من الخطأ في مجتمع من الغارقين في الخطيئة، وحاد الذكاء في مجتمع من الأغبياء، وحر ومستقل في مجتمع من الأذلاء والمسلوبين، ووطني حقيقي في مجتمع من مدعي الوطنية ومحترفي الرياء، ومبصر وحيد في مجتمع من العميان.

حينما "يألش" بعض أفراد جماعة، على الآخرين، فإن ذلك ربما يكون مفيداً، لكن حينما يتفرغ القطاع العريض من جماعة ما لـ"الالش"، فبالتأكيد ستنشأ مشكلة.

سنعود إلى السينما من جديد عند هذه النقطة، حيث يزودنا فيلم "الشيطان يعظ"، الذي أُنتج في ثمانينيات القرن الفائت بفكرة مفيدة في هذا الصدد. لقد أتى "شطا" المكوجي، الذي كان يمثل دوره "نور الشريف" إلى "توفيق الدقن"، الذي كان يلعب دور أحد أعوان فتوة الحارة، طالباً منه أن يضمه إلى رجال الفتوة، فتساءل "الدقن" بدهشة واستنكار شديدين: "كلكم عايزين تبقوا فتوات... أمال مين اللي هيضّرب؟".

المصريون اليوم "يألشون" على كل شيء إلا "الالش" نفسه، ويسخرون من كل شيء إلا السخرية ذاتها، وينتقدون كل شيء إلا انصرافهم للنقد فقط، دون محاولة تقديم أي حل أو بديل منطقي لما ينتقدونه، ودون طبعاً أن ينتقدوا أنفسهم.

سنرجع إلى الكثير من الكتابات والأبحاث التي أشارت إلى روح السخرية المتجذرة لدى الشعب المصري، والتي تحدثت عن دور النكتة في حياة المصريين، وأساليبهم في مقاومة الأوجاع والمحن والتسلط والاستبداد بالحيلة القائمة على السخرية وروح الدعابة التي لا تفارقهم مهما تعاظمت الخطوب.

لكن كل هذه الأدبيات، ومعها مثلها من حسن النية، ومحاولة تفهم الظروف الصعبة التي تكالبت على المصريين خصوصاً في السنوات الأخيرة، لن تفلح جميعها في قبول هذه الحالة المستشرية من التعويل على "الالش"، واعتباره أفضل ما يمكن فعله إزاء الواقع "التعيس".

المصريون "يألشون"... وهذا أمر جيد، لكن عليهم أن يفكروا في شيء آخر إلى جانب "الألش"، لأنه وحده لن يكون كافياً لإخراجهم من واقع صعب، سبق أن خرجوا مما هو أصعب منه وأشد إحكاماً وإظلاماً، حين كانوا قادرين على أن يسخروا، ويفكروا، ويفعلوا، وينتجوا في آن واحد.

* كاتب مصري

back to top