نريد الفصل بين مفاهيم الفتنة والثورة والاحتراب الأهلي.

Ad

أوافقك تماماً فتلك المفاهيم تستخدم من الجميع من دون تفرقة بينها مع أن لكل منها استخدامه وفقاً للظروف التاريخية للأمة، فالفتنة هي صرف الناس عن دينهم من فرقة أخرى علمانية أو كافرة، فيما يعبر مفهوم الثورة عن قيام مجموعة من طلاب الحق على حاكم ظالم أو هيئة ظالمة يطالبونهم بالحق، وليتهم يلزمونهم بالحق من دون إراقة الدماء وفي وقت قصير. أما الاحتراب الأهلي، فهو قيام مجموعات من الغوغائيين، لكل منها رأي ومصلحة  يريد أن يفرضها على الآخرين، فيتقاتل الناس وهذا يؤدي إلى الهلاك وليس إلى البناء.

هل ثمة تعريف واحد للفتنة في الإسلام؟

بداية، فإن الأوقع أن نقول فتناً لتعددها قال تعالى: {أموالكم وأولادكم فتنة} (الأنفال: 3)، فهي فتنة من نوع آخر غير المتبادر إلى الذهن عند ذكر مصطلح الفتنة، فالعقل يذهب إلى الصراع السياسي، والفتن متنوعة وعلماء الإسلام يخصصون أجزاء من مؤلفاتهم عن الفتن، والرسول (ص) يحذرنا منها. خلاصة التعريف أنها هي {كل ما يعصف بدين الناس سواء كان التأثير على الفرد أو على الجماعة}. المال فتنة، إذ نجد البعض حريصاً على كسبه من حلال أو حرام. كذلك من الفتن أن تنحرف جماعة من الأمة إلى مسلك باطل ثم تحاول أن تشيع هذا المسلك بين الناس لصرفهم عن دينهم، وقد حذرنا الله من الفتن، وممن يروجون الفتنة، من المنافقين الذين يسيرون على هواهم ويأخذون أيدي الناس إلى هذه الفتن.

ورسول الله  يقول: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء}، فنجد أن المرأة تحاول أن تكتسب الرجل بحركات ما، والرجل يحاول أن يكتسب المرأة بأفعال ما، والإسلام حدد قواعد التعامل بين الرجال والنساء منعا للفتنة، ووضع لها من الحدود ما يجعل الرجل بعيداً عن الافتنان بالمرأة والمرأة بعيدة عن الافتنان بالرجل، ويجب على الأمة أن تنتبه بحيث لا تقع فيها، كما أن الأمم الأخرى تحرص على أن تشيع بيننا الفتن والله شدد في كتابه الكريم أن {الفتنة أشد من القتل}، حيث قال لمعشر الكفار لا تفتنوا المسلمين، وطالب المؤمنين أن ينتبهوا ولا يقعوا في الفتن.

ما السبيل ليفرق المسلم بين ما يحدث من خلافات سياسية ووجهات النظر؟

في تقديري أن شباب اليوم مساكين، لأنهم لم يتعرضوا لقضية الإسلام عندما يقود الحياة كاملة ويقود الركب، بمعنى أن تشكيلات الأمة كافة تأتي وفق الإسلام ومنظومة أخلاقه. فالشباب يريد العدل والحق، وهو يعتبر أنه إذا أيد الرأي الأول يكون قد وقع في الفتنة وإذا أيد الرأي الثاني فقد يقترب منها أيضاً، ونحن نرى الآن من حولنا الدماء تسيل وثمة من يقتل ومن يحرق ومن يظلم، وهذه كلها فتن. ويصح هنا الاستشهاد بما جاء في السيرة أن صحابياً جاء إلى الرسول (ص) وقال له: {ماذا أفعل إذا وقعت الفتنة؟}. فرد عليه الرسول بقوله: {أمسك عليك لسانك وألزم بيتك}. وفي رأيي أننا في الوقت المعاصر وفي زمن تأكل فيه الناس بعضها بعضاً، يجب أن يقوم كل منا بدوره ولو بمجرد أن ينصح من حوله حتى لو شخص واحد فقط وأن يُقيمه على الحق وينهيه عن الوقوع في محظورات سفك الدماء، لإقامة الحق والنهي عن المحظورات وهنا تنتهي الفتن، وعلينا أن نقف إلى كلمة سواء، وكل منا يأخذ بيد الآخر إلى العدل.

كيف تقيم دور الشباب في ثورات الربيع العربي؟

في بداية ثورة 25 يناير 2011 في مصر، كان عندي خطبة في أحد المساجد وبعد صلاة الجمعة، تجمع عدد قليل من الشباب وسألوني: {أنت معاهم ولا معانا؟}، فقلت: {يا ابنى أنا ولا معاك ولا معاهم أنا مع الحق}.

وعندما سألوني عن رأيي في الثورة، أجبتهم بأن الثورة عواقبها ليست سهلة وستكون على رأس من شاركوا فيها، إذا لم يكن المجتمع جاهزاً لقبولها، وكان لدى الشباب الثائر اتفاق على حاكم رشيد يستطيع إدارة الحكم في البلد، لكنهم لم يملكوا آلية التنفيذ. وفي تقديري فإن الشباب كان طائشاً ولم يملك سوى الصوت العالي، من دون أي ترتيب لما بعد سقوط النظام.

لماذا برأيك يصنف بعض العلماء محاولات التجديد والاجتهاد في الفكر الإسلامي في خانة الفتنة؟

أعتقد أن كل إنسان محق لا يمكن أن يكره التجديد أو الاجتهاد في الفكر الإسلامي، وما يكرهه الناس الآن هو محاولات الميل أو الانحراف بالفتوى، ولا أحد يرفض أبداً فتح باب الاجتهاد، فالأخير ليس له علاقة بالفتنة إطلاقاً.

هل ثمة في التاريخ الإسلامي القريب أو البعيد مثال لثورة ناجحة؟

أظن الزمن المتـأخر شهد ما نستطيع أن نقول إنه ثورة ناجحة، وفي الزمن المتقدم في الإسلام على طول تاريخه كان الحكم فيه قائماً على العدل ولو أن حاكماً انحرف فثمة من المجتمع من يقومه. لكن لا نستطيع أن نسميه ثورة لأنه كان إحقاقاً للحق. كان البعض يقف أمام سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ويقول له: {لا سمع ولا طاعة}. وكان السبب أن أولئك وجدوا ثوبه الجديد أطول من أثوابهم رغم تساوي قطع الأقشمة التي تم توزيعها على المسلمين بعد أحد الفتوحات. لكن خليفة المسلمين لم يرد على معارضيه، وأشار إلى ابنه عبدالله، الذي أخبرهم أن قميص والده كان قصيراً لا يمكنه ارتداءه بسبب طول بنيانه، فتطوع ابنه ومنحه نصيبه من الغنائم وهو السبب في طول ثوب عمر، وهنا لا نستطيع أن نسمي ذلك الحدث بالثورة لكنه قيام للحق، ويقول تعالى: {ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: 104).

لكن كيف تنظر إلى تعاقب الخلافات في التاريخ الإسلامي، هل كان فتنة أم ثورة؟

لا أهتم بالتاريخ الإسلامي قدر اهتمامي بالمنهج الإسلامي وفق القرآن والسنة. أما التاريخ الإسلامي فهو مجموع أفعال المسلمين على مر التاريخ، ففي المنهج الإسلامي أن يكون الحاكم عادلاً وأن يكون المحكوم يسمع ويطيع، وإذا استمرت الأمور على ذلك استقرت الأمة، فالحاكم لا بد من أن يكون عادلاً ولا يغلب مصلحته على مصلحة الآخرين.

هل يمكن لنا أن نستفيد من سياسة خلفاء رسول الله واجتهادتهم في الحكم؟

قال رسول الله (ص): {عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجز}، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار}، فالرسول أوصانا صراحة بالاهتداء بسنته وسنة أصحابه الخلفاء، فاجتهاداتهم تضع الأمة على طريق الحق لأنها تعبر عن إجماع الأمة، وكما قال رسول الله: {لا تتجمع أمتي على ضلالة}.

كيف تقيم مسألة فتاوى تحريم الخروج عن الحاكم؟

لا تصدر مثل هذه الفتاوى من العلماء الأجلال الذين يهتدون بالقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، ومن المعروف أن الخروج على الحاكم إذا كان ظالماً لا يسمى فتنة أو خروج على الحاكم، بل هو{تقويم} للحاكم، وهو أمر مشروع منذ اللحظة الأولى في تاريخ المسلمين السياسي، عندما طالب أبو بكر عندما تولى خلافة رسول الله، من المسلمين أن يقوموه في خطبته الشهيرة قائلاً: {إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم}.

إلى أيّ مدى أنت متفق مع مصطلح الفتنة الكبرى؟

ثمة افتراءات كثيرة طاولت الصحابة بسبب أحداث صدر الإسلام، تناقلتها الكتب وأهل الهوى من المؤرخين، لذلك لا بد من أن نقرأ التاريخ الإسلامي من كتب أئمة الإسلام المعروفين بنزاهتهم. والفتنة التي تعرض لها الصحابة لا يوجد من أنصف فيها الصحابة إلا علماء المسلمين، لكن ثمة الكثير من الكتب التي تضم الكثير من الافتراءات التي تتجنب الحديث عن مبادئ الحكم الرشيد التي أرساها الخليفة عمر، الذي كان يقول: {اقتص من الحاكم مهما كان}.

لماذا تمتد الفتنة الكبرى إلى الواقع المعاصر في صورة الصراع بين الشيعة وبين السنّة؟

لا أريد أن أقول إنها فتنة ممتدة منذ الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فهي اختلافات فقهية بين المسلمين، يجب على أبناء الأمة مراجعتها معاً، فعلى أرض الواقع لا نجد دولة إسلامية جميع سكانها من أبناء طائفة واحدة، حتى إيران لديها غالبية شيعية وأقلية سنية، وهنا تجد الإشارة إلى الحديث الدائر منذ فترة عن مسألة {التقارب بين المذاهب}، لكنني اعتبره {تقويماً} للمذاهب، بمعنى أن كل مذهب يتضمن نقاطاً إيجابية نأخذها ونكمل مذهبا آخر، فكل منا يأخذ بيد أخيه، وكما قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} (آل عمران: 104)، فعلينا أن ندعو إلى الخير في ما بيننا لسد باب الفتن، فأصل الدين واحد مصداقاً لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} (المائدة: 3)، فالأمة الإسلامية لها دينها ومنهجها الذي رسمه الرحمن لها، لتعيش على الحق والسلام والوئام من غير فرقة وهذا فضل الله من به علينا، ويجب الاستفادة منه في سد اللحمة بين أبناء المسلمين ومواجهة أي محاولة غربية لبث الفتنة بين صفوفنا.

من المتهم في انتشار الفتن في مجتمعاتنا؟

للأسف كلنا مسؤول عنها، وهي موزعة على الجميع. نحن نتحمل الفتنة من نواح وغيرنا يتحملها من نواح أخرى، لكن الكبار يتعاطفون مع داعمي الفتنة من الخارج، والمؤامرة على الأمة قديمة يوم أن أشاعوا بيننا الربا والزنا والرقص والأغاني والمسلسلات، فهنا تقع مسؤولية {كبار الأمة والوجهاء} الذين فرضوا الباطل على الناس وتركوا قول الحق، فلو أن المسلمين وقفوا خلف علمائهم، ولو أخلص العلماء وعملوا على استقرار الأمة وتقويتها ونزع الفتن منها، لصلح حال الأمة كلها. لكن للأسف، دعاة الفتنة الذين يتلقون الدعم من أعداء الأمة في الخارج، يضغطون على العلماء ليقولون ما يريدون ويرغمون الناس على أن يقبلوا هذا الباطل الذي أشاعوه، ويخرسون الناس عن قول الحق، فلا يستطيع أحد أن يصدع بكلمة حق، وهذه الفتن هي من تدمر الأمة. لكن العلماء لو قالوا الحق والأمة قبلت به، لما تحققت فتنة، ولما ظهرت الشرور.

الربيع العربي هل تراه فتنة أم ثورة؟

ثورة بلا شك ولكن تآمر عليها المتآمرون فجعلوها فتنة بعدما اختطفوها، فصارت ثورة لم تكتمل أركانها ولا أسباب قوتها، في وقت كان الأعداء أكثر قوة منها، فتآمروا عليها فأفشلوها.

الأحداث في سورية: ثورة أم فتنة بين طائفتين؟

من وجهة نظري أن الشيعة يريدون القضاء على السنة في سورية، وأعداء الإسلام يأججون هذه الفتن للقضاء على الأمة الإسلامية، بتدمير سورية قلب الشام، وحرص بشار الأسد على كرسي الحكم كان أكبر من حرصه على دماء الناس التي ستظل في رقبته إلى يوم أن يلقى الله.

كيف نبني مجتمعاً إسلامياً يتجنب الفتن؟

لدينا أية يقرأها كل مسلم في الصلاة في سورة {الفاتحة}، وهي {أهدنا الصراط المستقيم}، وسأل أحدهم عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) عن الصراط المستقيم، فقال: {تركنا رسول الله في أوله وآخره في الجنة}، النموذج الذي رسمه رسول الله هو الذي يصل بنا إلى الجنة، فالمنهج معروف ويقول تعالى: {لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف: 96)، ويستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.

عبدالمُهدي في سطور:

حاصل على الإجازة العالية من كلية أصول الدين قسم التفسير والحديث جامعة الأزهر سنة 1973 بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف، وعلى درجة التخصص (الماجستير) من كلية أصول الدين جامعة الأزهر بتقدير ممتاز عام 1975، وعلى درجة الدكتوراه في الحديث وعلومه مع مرتبة الشرف الأولى عام 1980. دَرّس في كليتي أصول الدين في جامعة {الأزهر}، وأصول الدين جامعة {الإمام محمد بن سعود}، كذلك عمل أستاذاً مساعداً في كلية أصول الدين في جامعة {أم القرى}، ليتولى بعدها رئاسة قسم الحديث وعلومه في كلية أصول الدين في جامعة {الأزهر}.

لعبدالمهدي الكثير من الكتب ألفها على مدار سنوات عمره، من أهمها: {طرق تخريج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم}، و«طرق تخريج أقوال الصحابة والتابعين}، و}المدخل إلى السنة النبوية- بحوث في القضايا الأساسيةعن السنة النبوية}، و}السنة النبوية: مكانتها وعوامل بقائها وتدوينها}، و{علم الجرح والتعديل قواعده وأئمته}، و{السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة}، {كيف نصوم رمضان}، و{رسالة إلى كل مريض}، و{دفع الشبهات عن السنة النبوية}.

دخل الدكتور عبدالمهدي في معركة فكرية مع الدكتور مصطفى محمود؛ حيث ردّ عبدالمهدي على أطروحات صاحب برنامج {العلم والإيمان}، في كتيبات عدة من بينها: {الرد على د. مصطفى محمود في إنكار الشفاعة}، {دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية}، {مصطفى محمود إلى أين؟}. كذلك حقق عدة مصادر أصلية من بينها {رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين} للإمام النووي.