كلُّ سفرةٍ إلى نيويورك لا تتجاوز الشهرين أو الثلاثة أشهر تُعتبر سفرة متعجلة. ولذا أرى الأسبوع الذي صرفته في هذه المدينة أشبه بزيارة إلى بيت مضيّف لا أعرفه. ربما عرفتُ فيها طبيعةَ مقعده في غرفة جلوسه، وطبيعةَ الصحن الذي أكلتُ فيه على مائدته. ولأني أعتقد أن هذه المدينة ليست النموذج الذي يمكن أن أختاره مكانَ إقامة، فسأظل أجهلها ما حييت.

Ad

إنها «بابل» العصر الحديث، فلقد بلبل الله فيها الألسنَ حتى بلغتْ بإحصاءات اليوم قرابةَ 800 لغة موزعة على 8 ملايين ونيّف. وهي ليست نسبة سكانية كبيرة قياساً بلندن، ولذلك تُعتبر بالغة الكثافة.

وصلتُها مع موجة برد لم تمنعني من الخروج والتجوال يومياً، ولكنها أبطأتْ خطواتِ هذا التجوال، وقزّمتها. كنتُ أهتدي بخطوات الصديقين فؤاد مرزة (قاص) وصلاح عواد (صحافي) قبلي، أُربكهما بأسئلتي الكثيرة فيستجيبان: لعل هذه الناطحة السحاب هي التي انتخبها المخرجان كوبر وشُويدسا كي يتسلقها بطلهما «كنغ كونغ» (1933)؟ وهذه الطريق ألم تطأها قدما لوركا باحثاً عن أثر لولت ويتمان ولحيته التي تملأها الفراشات؟ ودار الأوبرا «ميتروبوليتَن» الأشهر بعد «كوفن غاردن» في لندن، و»لاسكالا» في ميلان، هل واجهتُها المزينةُ بلوحة الرسام شاغال مُضافة أم من أصل البناء؟ ولمَ هذا المظهر الصدئ الذي يميز حديد محطات الميترو لأغنى مدينة في العالم؟ ولمَ كثرة المجانين في المحطات بين الزنوج وحدهم؟ ..الخ من الأسئلة التي يُمليها البرد.

نيويورك عاصمة الثقافة في العالم، ولكن ليست لي. لأن تحقيق متابعة هذه الثقافة يتطلب وقتاً، والأهم أنه يتطلب مالاً كثيراً. ولذلك أمسكت بياقة الفن وحده، لأن بطاقتي الصحفية تيسر لي دخول المتاحف والمعارض مجاناً. رأيت متاحف أربعة: المتحف الوطني الذي يغطي مراحل الفن العالمي جميعاً، ومتحف الفن الحديث، والمعرض الجديد الذي يغطي مرحلة من الفن الألماني والنمساوي (كْلِمت، كوكوشكا، وشيلة)، ثم متحف الفنون الحمر. متحف الفن الحديث، في قلب منهاتن، أكثرهن جاذبية، لأني رأيت فيه الكثير من اللوحات التي اعتدتُ رؤيتها في كتب الفن. رأيت جدارية «زنابق الماء» لمونيه، ولكنها بديل كُلّف الفنان برسمه لواحدة تلاشت في حريق 1953. ولوحة «الغجرية النائمة» و»الحلم» (من المدرسة الوحشية) لهنري روسّو. و»الرقص» لماتيس»، و»نساء آفنيون» الشهيرة لبيكاسو. متحف بطوابق خمسة، يضم معرضاً موسعاً للفنان السوريالي البلجيكي «رينيهماغريتّي» (1898-1967). كانت فرصة لتأمل هذا الفنان المحيّر، المغرم باستحضار مواضيع مُعتادة، ثم يُقحمها بعلاقات فيما بينها غير مُعتادة. تأكدت من اعتباطية الشطح السوريالي لديه والتي تُفقد اللوحة أي عمق، باستثناء بضعة لوحات بالغة التأثير، مثل «إمبراطورية الضوء» و»لا تكن مُستنسخاً».

على امتداد جسر بروكْلِن، أُنجز عام 1883، والذي يُعتبر أطول جسر مُعلق في العالم، يرى العابرون آلافاً من الأقفال عُقدت على قضبان سياجيه الجانبيين. الأقفال منقوشة بأسماء عاشقين، جاءا على الجسر الفريد، الشاهد على حبهما الأبدي. ولكي يراهنا على هذا الأبد عليهما أن يرميا مفتاح القفل في الماء. لا أعرف لم ذكرتني هذه الأقفال بآلاف الخرق الخضراء التي تُعقد على شبابيك الأضرحة المسكونة بالقداسة. الفارق أن الهمسَ هنا همسُ قُبلٍ وآمال، وهناك تنهداتُ حرمانٍ من أملٍ لا أمل فيه.

النصبُ التذكاري لكارثة 11 سبتمبر حوضان مربعان ينحدرُ فيهما شلالُ ماء من كل جانب. وفي القاع ينحدر الماء ثانية في مربع أصغر إلى الأعماق. على حافة المربعين الواسعين قائمة أسماء القتلى. الدخول بتذكرة مجانية، عبر ممشى يقودك فيما بعد إلى الخارج. ذات يوم قريب سيصبح عرضاً مسلياً للسائح. سيتلاشى الأنين الذي أصغيت إليه وهو يخرج من كبِده. تماماً كما أصبح مصير «نُصب الحرية» (عمله الفنان الفرنسي فريدريك بارثولدي عام 1886، هدية من الشعب الفرنسي إلى الولايات المتحدة) المطل على عرض المحيط، وقد كان مناراً للهاربين من القمع والجوع ذات يوم.