الصَّهد

نشر في 17-12-2013
آخر تحديث 17-12-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس "سيأكل هذا الصّهد ظهرك، ألم تتعب من القراءة ؟". هكذا يختصر هذا التساؤل حياة الكائن الروائي في روايتي "الصهد" الصادرة حديثاً و"سماء مقلوبة" التي صدرت عام 1995 لناصر الظفيري. والكائن الروائي في كلتا الروايتين يكاد يكون هو الكاتب / الراوية والمروي عنه في آن واحد. فوطأة الصهد وشدته المتمثلة بحرارة الظهيرة وزمنها الثقيل المعبّأ بالمعاناة، تسير جنباً إلى جنب مع تعب القراءة والتوق إلى المعرفة الباطنة والظاهرة أملاً في الخروج من الشرنقة إلى الفضاء.

إن كانت "سماء مقلوبة" قد توغّلت عميقاً في أفعال تراجيدية قاسية كجرائم القتل والدم – وإن من منظور تخييلي وميلودرامي-، فإن "الصهد" عادت لتنهل من ذات المخزون "الجهراوي" المعبأ بوجع الشمس وحسّ الخذلان، والمستسلم لذاكرة زمان ومكان تحرّض على التفكيك وإعادة الرسم.

ويبدو أن سيرة المكان كتاريخ وكواقع معيش وكمؤثر أولي في تشكيل الوعي بالذات، كانت جميعاً وراء تشكيل هذا العمل الروائي "الصّهد"، ومن ثم تقسيمه إلى جزئين منفصلين: ما يخص "التأريخ" وما يخص "الرواية".

ويمكن للقارئ أن يدرك القصد من التقسيم، أو على الأقل يخمن ما يقصده الكاتب. فجزء التأريخ يمكن أن يُقرَأ في عموم إحداثياته – التي لا تخلو أيضاً من فن وخيال-، والتي تمس العلامات البارزة في تاريخ الكويت الاجتماعي وخاصة ما يتعلق بالهجرات البشرية مطالع القرن العشرين، والآتية من الصحراء العربية والعراق وإيران. وقد أبدع الكاتب في إلباس تلك الإحداثيات التاريخية شخصيات من لحم ودم، ومزجها بالخيال الأسطوري كحديثه عن نشأة "شومان" القادم من البادية وعلاقته بالجن وتوحّشه بالكهوف والصحارى. وفي فصل لاحق استند الكاتب الى وثائق مكتوبة عن رحلات السفر التجاري إلى الهند وموانئ إفريقيا، ككتاب الرحالة ألن فيليرز "أبناء السندباد"، بل استخدم أحياناً أسماء الشخصيات نفسها مثل النوخذة بن سالم.

ولاستكمال صورة التركيبة السكانية التي كانت تتأسس في الكويت آنذاك، وظف الكاتب شخصية "جاسم" القادم من إيران على ظهر ذات السفينة. ثم تتوسع الصورة بقدوم بن فضل من البصرة إلى الكويت هرباً من عسف النظام الحاكم، ليصبح له في الجهراء نفوذ وسطوة وجاه. وفي فصول لاحقة تأتي شخصية المدرس الفلسطيني كمال العسقلاني الذي وفد إلى الكويت ليستقر مع عائلته ويشارك في مصير البلاد فيما يأتي من أيامه. تلك كانت فرشة أولية ولازمة لتصاعد ونمو أحداث الجانب الروائي من العمل بعدئذ.

في الجزء الروائي تبدأ أطياف من سيرة الكاتب تلوح في الأفق، أو هكذا يبدو. بل لكأني بالكاتب يفسر لنا من خلال السرد التاريخي كيف انبثقت قضية "البدون" ثم تكرّست واستفحلت. بل لكأنه يشير بإصبع الإدانة إلى المتسببين الحقيقيين تاريخياً بهذا الوضع المجحف من أمثال "بن فضل" وابنه وقريبه، الذين كانوا يقربون من لا يستحق ويحرمون من يستحق حسب أهوائهم وميولهم التي لا تخلو من خبث ونكران للجميل. لقد كان علي شومان هو نتاج هذا الحيف التاريخي الذي صعب تصحيحه بعد ذلك، فيمم وجهه نحو الغربة في "كندا" بصحبة تلك الفتاة المتمردة الغامضة التي لم تكشف أوراقها إلا بعد نهاية بائسة وموت عبثي. وطبعاً لا بد أن تدخل أحداث الغزو وملابساته لتشارك في صياغة مصائر الشخصيات من وجهة نظر تاريخية وروائية.

ولعل القارئ للروايتين "صهد" و"سماء مقلوبة" يلفته ذلك التشابه بين "سليمان الأغبر" في الثانية و"علي شومان" في الأولى، الأمر الذي يدل على مدى تلبس الكاتب واستسلامه للروح التي تسكنهما معاً حد التطابق. فكلاهما نتاج البيئة الجهراوية بشظفها وقسوتها وصهدها الحارق، وبآمادها المفتوحة على اليأس والضجر والآمال العصيّة. وكلاهما ينقادان إلى امرأة كانت تعرف بفطرة الحب والحدس طريق الخروج من المتاهة، ومتعة تجريب شيء آخر غير الجمود والاستسلام. وكلاهما ينطويان على التحرّق للخروج من هذه البوتقة القدرية والانعتاق من سيرة لا يمكن تجاوزها إلا بالكتابة عنها.

back to top