يُقال لغةً إن مفردة "العام" تُستخدم لزمن السوء والأذى، ومفردة "سنة" تُستخدم لزمن المسرة والخير. وإذا صح هذا فإن عنوان فيلم ستيف ماكوين (المخرج الإنكليزي، مواليد 1969) هو "12 عاماً عبداً" لا 12 سنة. لأن الفترة التي قضاها سولومون كعبد، بعد أن اختُطف من الشمال الأميركي إلى جنوبه، بالغة العتمة والأذى.

Ad

اختطاف السود من بلدانهم الإفريقية، والمتاجرة بهم واستعبادهم كأقنان في الأعمال والخدمات الشاقة والمتدنية مادة شائعة في السينما العالمية. ومادة شائعة يفخر بها، عن بلادة، قسط غير يسير من تاريخ العرب وآدابهم، بالرغم من تعاليم الإسلام ونبي المسلمين. ويشقّ على النفس أنني إلى اليوم أسمع لفظة "عبد" تُطلق على الأسود من أفواه مثقفي الكتب العرب، وكأن بيت المتنبي البالغ الرداءة يتسرب إلى ضمائرهم باعثاً على الرضا والطمأنينة: "لا تشتري العبدَ إلا والعصى معه/ إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيد"، دون رادع من وعي أو حياء.

الفيلم الذي رأيته قبل أيام سبَقته سمعتُه، منذ حيازته على جوائز عديدة أواخر العام الماضي، ولأن مخرجه بريطاني أسود "أكمل الثانوية في المدرسة التي درس فيها ولداي، وفي الحي الذي أسكنه"، لمع اسمه كرسام، عند حصوله على جائزة "تيرنر"، أعلى جائزة بريطانية للفن التشكيلي، سنة 2006، ولمع اسمه كمخرج عبر فيلمين سابقين: "جوع" (2008) و"عار" (2011). الأول سياسي عن إضراب مقاتلي المقاومة الإيرلندية عن الطعام. والثاني عن مأزق شاب من نيويورك تتزاحم داخلَه الدوافعُ الجنسية الملتبسة، وعن أخته ذات الطبيعة الملتبسة هي الأخرى. وقد شاهدتُ الفيلمين، وقرأتُ عنهما في حينها، وبقي انطباعُ أحد النقاد بأن المخرجَ يميل بدوافع غامضة إلى إطالة مفاجئة لبعض المشاهد، وإلى رغبة في معاقبة الجسد، ماثلاً في رأسي وأنا أتأمل الفيلم الجديد. ففيه أكثر من شاهد على هذه الإطالة في المشهد، ولكن لغاية بالغة التأثير (في مشهد محاولة إعدام سولومون على فرع شجرة، ثم إعفائه بتركه مُعلقاً بين حبل حول الرقبة، وقدمين يمسان الأرض، أو يكادان)، وأكثر من عينة على مشهد الجسد العاري وهو يُجلد.

المشاهدة ليست مُسرة بالتأكيد لحفنة الأذى التي تنطوي عليها المئة والثلاثون دقيقة. ولعلي قلقت بشأن تكريس الفيلم جهدَه الفني لعرض محنة سولومون حتى خلاصه. هذا التكريس يُفرد محنةَ البطل داخل إطار الشاشة، وكأنه يلاحقها وحدها، دون محنة السود المستعبدين. وكأن ارتياح المشاهد لخلاص البطل في النهاية يعفيه من مشقة تحمله للظاهرة الانسانية المُذلة بجملتها.

    الفيلم يعتمد حدثاً تاريخياً موثقاً في سيرة "سولومون نورثآب" التي كتبها ونشرها عام 1853. إنها تتحدث عن شخص نورثآب الأسود الحر، والعازف البارع لآلة الكمان، وكيف تم اختطافه عام 1841 بحيلة قذرة من رجلين أبيضين دعياه إلى العزف في حفل موسيقي. وكيف خدّراه ونقلاه سراً إلى الجنوب لبيعه كعبد قن. ثم تعرض بالتفصيل لمراحل بيعه وشرائه مرات عديدة، كأداة زراعة في يد ملاك الأرض. ثم كيف أتاح القدر فرصةَ لقاء سولومون مع نجار كندي يُضمر كراهية للعنصرية، يتقبل فكرة نقل رسالة من سولومون إلى صديق له في نيويورك.

مراحل التنقل في الحكاية ليست إلا فواصل لرصد التعذيب اليومي المتواصل، الذي يتعرض له السود بين يدي الانسان الابيض، رجلاً أو امرأة. ولقد برع الفيلم، معززاً بموسيقى تتجاوب مع حساسية البطل الموسيقية، في الكشف عن مستوى الفساد الذي يمكن أن تتعرض له الروح حين تمتلك سلطة طليقة من الوعي والضمير. والعنصرية ليست إلا ثمرة هذا الامتلاك. لأنها تُنسي السلطان الأبيض، حتى في استخدامه الأسود كأداة أو حيوان، الرأفةَ الغريزية في الانسان التي تتطلبها الأداةُ أو الحيوان.

ولذلك يذهب الفيلم مدى في الكشف عن الرغائب الحيوانية المتدنية، حين يتشهى المالك سراً امرأةً سوداء، فتراه بفعل مستويات من التعقيد تتصف به الرغبةُ المتدنية عادة، يسعى إلى التنكيل بها وتعذيبها بصورة شائنة. الفيلم اعتبر من أفضل أفلام عام 2013.