في مواجهة إعادة تأكيد روسيا على تقاليدها الإمبراطورية والأساليب الخادعة والانعكاسات من الماضي السوفياتي، فكيف ينبغي لأوروبا أن تستجيب؟ هل تعطي الأولوية لقيمة الجغرافيا أو "جغرافية القيم"؟
إن أولئك الذين يتجهون للخيار الأول يفعلون هذا باسم "واقعية الطاقة" القصيرة الأجل، زاعمين أنه أمر بالغ الأهمية أن يتم التوصل إلى اتفاق مع روسيا، لأن أوروبا تفتقر إلى الغاز والنفط الصخريين في أميركا. ووفقاً لهذا المنطق فإن الولايات المتحدة قادرة على الحياة من دون روسيا، على النقيض من أوروبا.وعلاوة على ذلك، يرى الواقعيون أن سلوك أميركا المتجاسر في التعامل مع أقدم حلفائها وأكثرهم إخلاصاً- والذي انعكس في فضائح المراقبة الأخيرة التي تورطت فيها وكالة الأمن القومي- تسبب في إفقاد فكرة "مجتمع القيم" مصداقيته. وإذا كانت أميركا لم تعد تحترم القيم التي تتفاخر بها، فما الذي قد يجعل الاتحاد الأوروبي يخسر الوفاق مع الكرملين باسم التمسك بهذه القيم؟ ويزعم هؤلاء الواقعيون أيضاً أنه من خلال مواءمة مواقف الاتحاد الأوروبي مع مواقف حلف شمال الأطلسي، اختارت أوروبا بتهور إهانة روسيا- وهي طريقة عمل غير مجدية وخطيرة. وقد حان الوقت، كما يقولون، لتفعيل سياسة تهدف إلى التوفيق بين الحس التاريخي والجغرافي السليم وبين ضرورات الطاقة. والواقع أن مستقبل أوروبا يرتبط ارتباطاً شديداً بمستقبل روسيا، في حين أدارت أميركا ظهرها لأوروبا، بدافع من عدم الاهتمام إن لم يكن خيبة الأمل. والاحتفال بالماضي المجيد- الذكرى السبعين لساعة الصفر (نزول قوات الحلفاء على شواطئ نورماندي في فرنسا المحتلة)- من غير الممكن أن يخفي الحاضر المنكمش: فرغم أن أوروبا قد تحاول تنويع مصادر الطاقة، فإنها لا تستطيع أن تستغني عن روسيا في المستقبل المنظور.ويتساءل الواقعيون عن السبب الذي قد يدفع المرء إلى الموت من أجل الأوكرانيين الذين هم أكثر فساداً وأقل تحضراً من الروس أنفسهم؟ فقد حصلت أوكرانيا على الفرصة كدولة مستقلة ولكنها فشلت، فكانت ضحية لفساد نخبها السياسية، وقد حان الوقت لإغلاق هذا الفصل التعيس.وهذه الرؤية ليست نظرية، فبوسعنا أن نجدها في مظاهر متنوعة في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، على اليمين واليسار، وفي كل المهن. ويبدو أن تصور انحدار الولايات المتحدة النسبي وفقدان الاتحاد الأوروبي العميق للثقة في قيمها ونموذجها يضفي الشرعية على الموقف الذي ينبني في كثير من الحالات على بقايا مشاعر أقدم عهداً في معاداة أميركا.أما المسار الآخر، الذي يؤكد إعلاء شأن جغرافية القيم على قيمة الجغرافيا، فهو ذلك الذي اختاره الآباء المؤسسون للمشروع الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ووفقاً لهذه الرؤية فإن الفشل في إدراك مخططات بوتين الإمبراطورية من شأنه أن يزيد من خطر وقوع أوروبا فريسة لشكل غير كريم من أشكال التبعية.وبالنسبة إلى أوروبا فإن الالتفات إلى أصوات صفارات الإنذار القادمة من الشرق -التي تعزف لحن التكامل بين قوة روسيا الاستراتيجية وقوة الاتحاد الأوروبي الاقتصادية- سيكون أقرب إلى دفع الإتاوة لعصابات المافيا طلباً للحماية. ولكن كيف لنادي الديمقراطيات أن يعتمد بشكل كامل على قوة استبدادية تعرب علناً عن احتقارها لأنظمة أعضائه السياسية "الضعيفة" لتأمين نفسه؟ ليس من قبيل المصادفة أن يجد هذا الخطاب الروسي الذي يعارض الديمقراطية والمهاجرين والمثلية الجنسية الدعم بين أكثر أحزاب الاتحاد الأوروبي محافظة وتطرفاً وانغماساً في النزعة القومية. وعلى النقيض من هذا فإن نموذج الاتحاد الأوروبي يستمد قوته وجاذبية من طبيعته الديمقراطية. ويبدو أن الأوروبيين الذين توقفوا عن الحلم بأوروبا، والذين يعتبرون السلام والمصالحة وقبل كل شيء الحرية من الأمور المفروغ منها، لا يدركون حجم المخاطر.الواقع أن تبني منطق المصلحة الوطنية في التعامل مع قضية الطاقة، على النحو الذي يجعل أوروبا معتمدة على روسيا لتدبير نحو ثلث مواردها من الطاقة، قد يكون بمنزلة الانتحار. ولا وجود للبدائل. ولن تستطيع أوروبا أن تقول "لا" للكرملين وشركة جازبروم، إلا إذا امتلكت الإرادة اللازمة للقيام بذلك.إن السياسة الوحيدة الممكنة التي قد تكون واقعية وكريمة تتألف من تركيبة من الحزم والعزيمة لوضع حدود لروسيا بقيادة بوتن. ولأن أميركا لم تعد كما كانت على وجه التحديد (بعد أن فعلت الكثير في عهد جورج دبليو بوش والقليل في عهد باراك أوباما)، فإن التحالف الذي يستند إلى القيم يصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى. وهذه القيم هي التي أدت إلى سقوط سور برلين وحفزت المتظاهرين في كييف على تحدي الشتاء الأوكراني الوحشي، فخرجوا إلى الهواء الطلق في الميدان. ومن آسيا إلى إفريقيا، يبدو أن الناس لديهم فهم أفضل كثيراً من الأوروبيين لأهمية القيم الأوروبية. وما عليك إلا أن تنصت إليهم وهم يشيدون بالسلام والمصالحة، وحتى المساواة النسبية (مقارنة بالولايات المتحدة) في قارة أوروبا.وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فإن الاختيار لم يكن قط أكثر وضوحاً من الحال الآن. وإذا كان له أن يبقى ويزدهر فلابد أن يضع جغرافية القيم فوق أي شيء آخر.* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وأستاذ زائر في كينغز كوليدج بلندن حاليا.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
أوروبا وجغرافية القيم
09-06-2014