لعلك انتظرت ظهور باسم يوسف في برنامجه الرائج "البرنامج" أمس الأول الجمعة، وربما تكون قد تخليت عن بعض المهام التي توجب عليك القيام بها، أو أرجأت التزامات مهمة، لكي تتمكن من الاستمتاع بما يقدمه هذا الإعلامي الساخر الموهوب.

Ad

لعلك تشعر بإحباط شديد الآن، لأن باسم لم يظهر. يقال إن القناة الفضائية التي يظهر على أثيرها منعت إذاعة حلقته الأخيرة، ويُعتقد على نطاق واسع، أن تلك القناة "المؤيدة" للنظام المؤقت الجديد في مصر، فعلت ذلك، إرضاء لهذا النظام، ولرمزه الفريق عبدالفتاح السيسي.

لعلك تشعر أن باسم لن يعود إلى الظهور مجدداً، لأن قطاعاً مؤثراً من الجمهور ضاق بما فعله في حلقته الأخيرة، التي قيل إنه "انتقد خلالها الجيش"، و"أهان مصر"، و"طعن في ثورة 30 يونيو"، و"تجاوز في حق القائد العام للقوات المسلحة".

من الممكن أن يكون باسم قد تجاوز بالفعل أو خرق خطاً من الخطوط الحمر الفعالة في مصر الآن، ومن الجائز أنه بالفعل استخدام "ألفاظاً غير لائقة أو خادشة للحياء"، وقد تكون شعبيته تراجعت قليلاً، رغم حفاظه على معدل الرواج بل زيادته بوضوح، لكن المؤكد أن أحداً لن يستطيع أبداً أن يمنع باسم من الظهور على وسائل الإعلام، والوصول إليك، لأن "حارس البوابة الإعلامية" ببساطة مات.

أحسن الله عزاءكم في حارس البوابة الإعلامية، فآلاف من الصحافيين ورؤساء التحرير، وعشرات من وزراء الإعلام، ومالكي الوسائل الإعلامية، أصبحوا، غير قادرين على ممارسة لعبة قديمة تعودوا خلالها على التحكم فيما يصل إلى الجمهور من مواد ومعلومات.

لقد فُتحت البوابة الإعلامية على مصراعيها، وبات الحديث عن تحكم في تدفق المواد عبرها نوعاً من الخيال والتفكير بالتمني، ولم يعد بوسع أي سلطة إعلامية أن تحجب شيئاً عن الجمهور.

لن تعود عجلة الزمان إلى الوراء، ولن يتمكن أحدهم من حجب الحقائق، أو تقييد الأثير، أو فرض نمط محدد من الذوق على جمهور يعيش أزهى عصور حريته.. بل انفلاته.

في الخمسينيات من القرن الماضي بدأت تظهر دراسات "القائم بالاتصال" في الأكاديميات الإعلامية في الغرب؛ وهي دراسات ركزت على الصحافي ومسؤول التحرير من زاوية الظروف والعوامل المحيطة به أثناء لعبه دور مرسل الرسالة الموجهة إلى الجمهور.

لكن عالم النفس النمساوي الأصل، الأميركي الجنسية، كرت لوين نجح في تطوير ما أصبح يعرف بنظرية "حارس البوابة الإعلامية" Gate Keeper؛ وهي النظرية التي ظلت مهيمنة على معظم الدراسات الإعلامية لأكثر من نصف القرن، استناداً إلى الظروف السياسية والاجتماعية التي أثرت في النشاط الإعلامي طيلة تلك الفترة.

فقد خرج العالم من الحرب العالمية الثانية منقسماً إلى قسمين رئيسين؛ يقودهما قطبان متصارعان، حيث اعتبر كلاهما أن الإعلام من أفضل الأدوات التي يمكن استخدامها لتحقيق النصر في المعركة الكونية الشرسة التي سكتت فيها المدافع وتلاسنت الميكروفونات.

فمن جهة، كانت الشمولية والمركزية في النظام الشيوعي تتيح للقائد أو الحزب أو الدولة التحكم التام في سياسات الاتصال؛ ولذلك فقد كان وجود حارس البوابة الإعلامية ضرورة حتمية؛ إذ يجب أن يكون هناك دائماً؛ يختار للجماهير ما يناسبها، ويحجب عنها ما يضرها، ويردد مناقب القائد أو الحزب أو الدولة، ويفضح جرائم "الأعداء الرأسماليين" و"الإمبرياليين ناهبي أموال الشعوب الفقيرة".

ومن جهة أخرى، كانت الاحتكارات الرأسمالية في أعتى صورها تعين حارس البوابة الأمهر والأكثر احترافية وجرأة؛ حيث يسلط الضوء على "إمبراطورية الشر" و"الجزء شديد الإظلام من العالم"، وبالطبع هناك الكثير من الاهتمام بأخبار النجوم وفضائحهم، وعظمة السياسات الغربية الحرة في مقابل "تدني سياسات الأعداء". وتتلخص النظرية التي طورها لوين في أن المادة الإعلامية تقطع رحلة طويلة حتى تصل إلى الجمهور، وأنها تمر في تلك الرحلة بنقاط رئيسة (بوابات)، يتم فيها اتخاذ قرارات بما يدخل وما يخرج، وما ينشر بالحالة التي هو عليها، وما يخضع لتعديلات وحذف وإضافة، وما ينشر منفرداً من دون مساندة، وما تضاف إليه الرسوم والصور والمواد المعضدة، وما ينشر في صدر الصفحات، ويبث في مقدمة النشرات، وتتصدره تنبيهات "مهم" و"عاجل"، وما يقبع في ذيل الصفحات، وقرب نهايات النشرات والفترات الإخبارية.

واعتبر لوين أن جميع أصحاب القرار، في كل مفصل ونقطة رئيسة على مدى رحلة المادة الإعلامية هم من حراس البوابات؛ مؤكداً ضرورة الاهتمام بالأوضاع التي يعيشها هؤلاء والظروف التي تحكم عملهم، وتتحكم في قراراتهم؛ لأن تأثيرهم في الجمهور كبير إلى درجة لا يحدها حد.

وليس لديّ شك في أن لوين كان سيعيد صياغة نظريته هذه إذا امتد به العمر حتى عصر "اليوتيوب"، و"الفيس بوك"، و"تويتر"، و"الجماعات البريدية"، والتلفزيون المدفوع.

فعن أي حارس بوابة يمكننا أن نتحدث الآن؟ أول نقطة يمارس عليها حارس البوابة سلطاته هي سلطة "انتقاء القصص": ما الذي نصوره ونكتب عنه، وما الذي ندعه يمر لا يعلم به أحد، ومن ثم لا يحفل به أحد.

لم يعد هناك محل لهذا الكلام؛ فاي تلميذ صغير في المرحلة الإعدادية، أو كهل لم يدخل مدرسة في حياته يمكن أن يصور حريقاً شب في المنطقة التي يسكن فيها؛ ويركز على تقاعس الشرطة، أو تباطؤ رجال الإطفاء، أو السيدات اللاتي هرعن إلى الشارع بملابس النوم غير اللائقة. هذا الحارس الأول للبوابة، يمكنه أيضاً أن يبث قصته عبر أي من منصات الإطلاق التي لا يحرسها أحد؛ مثل رسائل الموبايل للأصدقاء، ومدونته على الإنترنت، وصفحته على "فيسبوك"، ورسالته عبر البريد الإلكتروني، أو موقع مثل "يوتيوب"، أو غيره.

وإلى جانب بروز هذا "الصحافي المواطن"، وإتاحة "وسائل البث والإطلاق"، هناك التلفزيون المدفوع؛ الذي تتوافر منه أنماط "اختر ما تشاهده"، على غرار "ما يطلبه المستمعون".

فحارس البوابة لم يعد موجوداً، ولم يعد بوسعه مثلاً أن يمنع قناة فضائية تستهدف الدولة بالأخبار الزائفة، وتغرق الجمهور بالوقائع المصطنعة والصور المفبركة، وتسمم حياته عبر استضافة ضيوف أفاكين، يبثون دعايات مغرضة.

لم يعد حارس البوابة قادراً على إسكات تلك القناة، ولم تساعده في ذلك الأحكام القضائية، أو قوى الأمن، أو التشويش على البث؛ لأن تلك القناة تبث على أقمار اصطناعية عديدة، وتصر على الاستمرار فيما تفعله.

ماذا سيفعل مالك القناة الفضائية التي منعت باسم يوسف من الظهور إذا ما قرر هذا الأخير بث حلقاته على "اليوتيوب". لقد بدأ باسم بالفعل تصوير أولى حلقات برنامجه من غرفة المعيشة في بيته، ثم أذاع ما صوره على "يوتيوب"، ليجد صدى كبيراً، حمله إلى التعاقد مع محطة تلفزيونية بأعلى أجر يحصل عليه إعلامي في منطقة الشرق الأوسط، كما جعل صورته تتصدر أهم الصحف والمجلات ونشرات الأخبار في العالم.

حارس البوابة لم يعد يتحكم في تلك المواد التي تمس ثوابت ومعاني يريد لها ألا تمس، أو تروج خطاباً متدنياً وبذيئاً وغير لائق، لأن أصحاب هذا المحتوى لديهم العديد من الطرق لبثه وإيصاله إلى الجمهور.

حارس البوابة الإعلامية مات... مضى عهده وولى.

 البوابة الآن لك، افعل بها ما تشاء، لكن حذارِ أن تقودنا إلى حيث نترحم على الأيام الماضية.

* كاتب مصري