قاطعت مديحة فوزي بحدة حينما أيقنت ما يهدف إليه، قررت أن تحسم الخلاف ومن أول مرة، فقالت: {أنت عارف أني ممثلة، وحبتني وارتبطنا وأنا ممثلة، وفاهم كويس طبيعة شغلي، يبقى إزاي تقولي أقعد في البيت وأسيب الفن، أنت عارف أنا تعبت قد إيه علشان أوصل للمكانة اللي أنا فيها دلوقتي، ودي حاجة مش سهل التنازل عنها، إيه اللي حصل بقى؟}.

Ad

فوزي: اهدي يا مديحة أنت متعصبة ليه أنا مقصدش أنك تعتزلي.

تابعت كلماتها بحدة: أمال تقصد إيه يا محمد فهمني؟

فوزي: طب أهدي بس.

مديحة: أنا هادية أهو فهمني تقصد إيه، خصوصا أنك عارفني كويس وعارف حبي واهتمامي بشغلي.

سكت فوزي ولم يردّ، اكتفى بأن أومأ برأسه تأكيداً على المعرفة، فتابعت: أوعدني يا فوزي إنك مش حتطلب مني في يوم من الأيام بعد جوازنا أني اعتزل الفن؟

في هدوء وبصعوبة قال: أوعدك.

احتوى فوزي غضب مديحة سريعاً، ومن جانبها أدارت دفة الحديث إلى موضوعات أخرى، اكتفت بوعده لها والإفصاح عما بداخلها، أو بتعبير أدق {أن تضع النقط فوق الحروف}، كما يقولون، ومنذ البداية، تفادياً لمشاكل لاحقة.

رغم انتهاء المشكلة، فإن مديحة كانت تتوجس أن يعاود فوزي فتح موضوع اعتزالها التمثيل، لذا راحت تثبت له قدرتها على تنظيم وقتها بشكل أفضل، والأهم تداركت سبب المشكلة التي تكمن في إهمالها له خلال الفترة السابقة، فكانت أكثر حرصاً على تفادي أخطائها، فيما تجنب العريس الشاب الحديث في هذا الأمر مرة أخرى حتى موعد الزواج، شعرت أن زوجها تفهم حبها للفن، وأنه لن يحرمها منه مستقبلا، فاطمأنت إلى حرصه على إسعادها كما تحاول هي بالضبط.

أنهت مديحة تصوير فيلمها {أولاد الشوارع}، ولم تتعاقد على أعمال أخرى، خصوصاً بعدما أخبرها فوزي رغبته في التعاون معها بفيلم جديد هو {نهاية قصة}، ليكون باكورة تعاونهما بعد زواجهما مباشرة، ومن ثم تفرغت مديحة لإعداد منزل الزوجية.

من جهته كان فوزي يستعد للسفر إلى باريس للقاء صناع السينما هناك وبحث إنتاج أفلام ملونة، اختار أن تكون بدايتها مع فيلم {نهاية قصة}، الذي أتمه بعد زواجه من مديحة وعرض في سبتمبر 1951 وحقق نجاحاً.

يا للي أنت بعيد

سافر فوزي إلى باريس وأشواق الحب تعذبه، ولولا حرصه على تطوير عمله والبحث عن كل ما هو جديد لما ترك محبوبته وسافر، لذا، في مساء كل ليلة، كان يحادثها تليفونياً، ويبثها مشاعره وحبه ويطمئن منها على أخبارها وكيف تمضي الوقت بعيداً عنه، وفي إحدى المرات غنى لها مقطع من أغنية أعدها خصيصاً لها، وكان انتهى من تلحين جزء منها يقول:

يا اللي أنت بعيد

ياللي أنت بعيد.. والنار بتزيد.. والقلب شبكته ونسيته...

طال بعدك ليه؟ ونويت على إيه؟

يا خوفي لتنسى اللي هويته

ياللي أنت بعيد

كذلك كان يطلعها على آخر ما توصل إليه في مباحثاته مع الطرف الفرنسي، وفي مكالمة أخرى غنى لها:

يا ولاد بلدنا يوم الخميس هكتب كتابي وابقى عريس

الدعوة عامة وحتبقى لمة

وحيبقى ليا في البيت ونيس

يا يا ولاد بلدنا

لم يكن الحديث اليومي بينهما يقل عن نصف ساعة، وظلا على هذا النحو طوال فترة سفره، حتى جاء يوم مغادرته الفندق ليفاجأ بفاتورة حسابه تتضمن أرقاما مبالغاً فيها، أو هكذا تصور في البداية، خصوصاً أنه لم يكن يتقن اللغة الفرنسية، ما دفعه إلى أن يتصور أن ثمة خطأ فيها.

فوزي: واضح أنه في أرقام غلط في الفاتورة؟

موظف الاستقبال: إطلاقاً الفاتورة مضبوطة

فوزي: مضبوطه إزاي، فهمني من فضلك كل بند بكام.

وراح موظف الاستقبال يفند لفوزي تفاصيل كل بند على حدة حتى جاء عند بند المكالمات، ليكتشف فوزي أن كل مكالمة تجاوزت الـ15 جنيهاً ومن ثم كان مجموع المكالمات 150 جنيهاً، وهو رقم ضخم في تلك الفترة، دفعها فوزي وهو يضحك مؤكداً لرفلة، رفيقه في رحلته، أنها أغلى فاتورة حب دفعها عاشق ولهان، وقد احتفظ بها، فترة طويلة، ليمازح مديحة، إذا غضبت منه لأي سبب، بأنه دفع لأجلها أموالا طائلة، فيما حرص في سفرياته التالية على أن يختصر في المكالمة، لعدم تحديد مدة محددة تقطع بعدها المكالمة تلقائياً.

عاد فوزي من باريس ليتمم زواجه من مديحة في حفل بسيط حضره أقرب الأصدقاء، وسافرا بعدها إلى باريس لقضاء شهر العسل وفي نفس المكان الذي شهد مكالماته الغرامية لها التي كلفته الكثير، هناك عاشت مديحة أسعد أيام حياتها، واجتهد فوزي في إسعادها بقدر استطاعته.

وفي صباح أحد الأيام كانا يتمشيان معاً في شارع الشانزليزيه الشهير، حينما التفت إليها فوزي قائلا:

- سعيدة يا مديحة؟

مديحة: جداً يا محمد ربنا يخليك لي.

فوزي: أوعدك كل أيامنا حتبقى عسل في عسل.

مديحة بسعادة ممزوجة بخجل: يارب يا محمد تفضل أيامنا كلها كده ويبعد عننا عيون الحساد.

فوزي: طيب قوليلي مفيش في نفسك أي حاجة عاوزاني أجيبهالك؟

 ثم جذبها من يدها نحو واجهة أحد المحلات وتابع قائلا: إيه رأيك في الفستان ده، يااه جميلة الشنطة دي و...

قاطعته قائلة: هي جميلة فعلا بس انت اشتريت لي حاجات كتير يا محمد كفاية كده.

فوزي بحسم: مفيش حاجة تكتر عليك، أنت حبيبتي وأنا نفسي أجيب لك حته من السما... تعالي بس نشوف المحل.

مديحة وقد حاولت إبعاده عن المحل: والله يا محمد مش عاوزه... كفاية كده، إحنا جبنا حاجات كتير وأنا لو محتاجة حاجة كنت ح أقولك.

وفي المساء كانا يتناولان العشاء في أحد أشهر الفنادق على ضوء الشموع، رقصا حتى تعبا من كثرة الرقص، قبل أن ينتقلا إلى الفندق في الساعات الأولى من الصباح، وما هي إلا ساعات قليلة حتى انطلقا يجوبان أشهر الأماكن في باريس، لدرجة أنهما، وفي أقل من 10 أيام، جابا باريس طولها وعرضها.

وفي أحد الأيام كانا يأخذان قسطا من الراحة على أحد المقاعد الخشبية في إحدى الحدائق بعد نزهة طويلة، التفت إليها فوزي قائلا: متهيألي يا مديحة أنا مخلتش في نفسك أي حاجة ومعملتهاش صح؟

بالطبع توقع فوزي أن توافقه زوجته الشابة الرأي وتثني عليه، بل تشكره لكل ما يبذله من جهد لإسعادها، إلا أنه فوجئ بها تقول له:

لا يا محمد لسه في حاجة واحدة محققتهاش لي؟

استغرب فوزي ما قالته مديحة وبدا الانزعاج الشديد على وجهه، إذ لم يتصور أبداً أن يكون ردها على هذا النحو، كان يتخيل أنه نجح بالفعل في أن يأتي لها بقطعة من السماء، قبس من نور، السعادة على طبق من ذهب، لذا صدمه ردها فالتفت إليها مذهولا:

- إزاي؟

مديحة في محاولة لإخفاء ابتسامتها: زي ما بقولك كده، حاجة واحدة سبق ووعدتني بيها ولسه محققتهاش؟

فوزي محاولا استدعاء ذاكرته: مش فاكر؟ فكريني أنت بس وأنا مش ممكن أتاخر عنك أبداً.

مديحة: وعدتني تسمعني القرآن بصوتك، أنت نسيت ولا إيه يا محمد.

فجأة قام فوزي من مكانه وانطلق يجري في اتجاه الشارع، ولثوان قليلة لم تفهم مديحة ماذا حدث ولا ماذا تفعل، حتى بدأت تنطلق خلفه في محاولة للحاق به، لم تستوعب هل ضايقته كلماتها لهذا الحد، وبصعوبة لحقت به وكان قد جلس على أقرب مقعد في أول كافيتريا صادفته، وقد خلع حذاءه وبدأ ترتيل ما تيسر من صغار السور.

وقفت مديحة مذهولة لا تعرف ماذا تفعل، فيما رواد المقهى ينظرون تارة إلى فوزي وأخرى إليها، وهم لا يفهمون بالطبع لماذا يجلس على هذا النحو، ولا ماذا يقرأ، إلى أن انتهى من قراءة بعض سور القرآن فنظر إليها قائلا: متهيألي أنا كده حققت لك كل اللي وعدتك بيه.

تقول مديحة: {كان محمد فوزي إنسانا من نوع نادر، رجل بمعنى الكلمة وهب حياته لفنه وجمهوره، كان حبنا قوياً، وكل منا أدى دوراً في حياة الآخر، ولا أنكر أن الخلافات نشأت بيننا كأي أزواج، لكنها لم تكن، كما صورتها الصحافة، ومعظمها بسبب حساسيته كرجل شرقي، فلم يكن يقبل أن أتابع عملي الفني حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، فيما ينتظرني في المنزل، لذا حرصت على تنظيم وقتي واحتواء لحظات الغضب، إلا أن المشاكل كانت تلاحقنا لهذا السبب، كذلك بسبب سفري إلى الخارج بمفردي رغم ثقته بي، إلا أن طبيعته الشرقية كانت تتغلب عليه، حتى إنه كان يقول لي دوما: {أنا رجل فلاح وما أقبلش كده أبداً}.

تابعت: {كان فوزي رجلا على طبيعته أو كما يقولون {اللي في قلبه على لسانه} لا يخفي ما في داخله ويتعامل بشكل طبيعي مع من حوله، حتى عندما يغضب كان يتحدث بصراحة عن كل ما يغضبه، وعندما يهدأ لا يتذكر أصلا سبب المشكلة، ما سبب لي أزمة في بداية علاقتنا حتى تفهمت طباعه وأدركت ما يسعده، وكنت أقوم به من تلقاء نفسي. حتى ألحانه كنت أساعده فيها، فمثلا كان الإلهام يأتيه أحياناً وهو نائم، وكنت أشعر به فأمنحه النوتة لكتابة ما يخطر بباله، وأدير المسجل ليسجل الأغنية إذا جاءه الوحي، وكان يستشيرني في الأفلام التي ينتجها أو يشارك فيها}.

صعبان عليّ

 بعد عودتهما من أسبوع العسل بدآ تصوير فيلم {نهاية قصة} مع المخرج حلمي رفلة وسليمان نجيب وإسماعيل ياسين، والفيلم يتمحور حول شاب ثري يهوى كتابة القصص، يؤلف قصة، ويتقدم بها لمسابقة أدبية ولكن باسم مستعار لرغبته في اختبار موهبته بعيداً عن المجاملات الاجتماعية، وحول فتاة ثرية تغرم بابن عمها، لكن والدها لا يقر بهذه العلاقة لأنه يعلم أن ابن عمها يطمع في ثروته وليس في حب ابنته، وحينما يشتد المرض على الرجل الثري يوصي بألا تتزوج ابنته من ابن عمها وإلا تضيع منها الثروة، وفعلاً تنفذ وصية والدها، وذات مرة تقع في يدها قصة الشاب الثري فتعجب بفكرتها كونها تتشابه مع حكايتها فتبدأ البحث عن مؤلف القصة ليتوجا في النهاية قصة حبهما بالزواج.

في هذا الفيلم غنى فوزي لمديحة أغاني عدة لا تتوافق ودراما الفيلم فحسب، بل تعبر عن حبه لها أيضاً، مثل {من نظرة عين} و{يا نور جديد}.      

بعد أشهر التقيا مجدداً في {بنات حواء} مع نيازي مصطفى، وهو يشكل عودة للأفلام {النسوية} التي ترفع شعار المساواة بين الرجل والمرأة، من خلال حكمت (مديحة يسري)، فتاة متعلمة جادة، صاحبة محل أزياء، ترفع شعار المرأة تساوي الرجل ومحصنة ضد أي اختراقات عاطفية، وأمامها هدف محدد دخول البرلمان، إذ ترى في نفسها أنها مؤهلة لتحقيقه، فهي تملك العلم والتجربة والمعرفة والشخصية القوية، فيقع الرسام وجيه (محمد فوزي) في حبها، لكنها بالطبع ترفض حبه والزواج منه، إلا أنه، ينجح في الفوز بها بعد مطاردات ومواقف كوميدية لشقيقتها (شادية) وخطيبها (إسماعيل ياسين) الذي لا يمكنه الزواج من حبيبته بسبب تقاليد العائلة التي تحتم زواج الابنة الكبرى أولا.

الفيلم الذي أخرجه نيازي مصطفى تضمن مشهداً تضرب فيه مديحة فوزي وتسقطه على الأرض، إلا أنه وفي صباح يوم التصوير فوجئ نيازي بفوزي يرفض تصوير المشهد.

- خير يا فوزي قالولي إنك لسه مش جاهز خير؟

فوزي: لا يا أستاذ أنا جاهز بس مش ح أصور المشهد ده؟

نيازي: مش فاهم يا محمد، منين جاهز ومنين مش عاوز تصور.

فوزي: حاصور بس مش حاصوره بالطريقة دي.

نيازي وقد بدأ صبره ينفذ: أنت بتقول ألغاز يا محمد، ممكن تفهمني بالراحة كده أنت عاوز إيه بالضبط.

فوزي: بص يا أستاذ نيازي، أنت عارف أني راجل فلاح، ومفيش راجل فلاح شهم كده يقبل إن مراته تضربه علقة سخنة.

نيازي ضاحكا: بس حكمت هنا في الفيلم لسه مبقتش مراتك، وأنت هنا وجيه مش فوزي.

فوزي محتداً: لا أنا فوزي واللي حيتفرج على الفيلم حيبقى عارف أني فوزي مش وجيه، وعارف أن الست اللي بتضربه دي مراته، ودي حاجة أنا مقبلهاش أبداً.

احتد النقاش بين فوزي ونيازي وتدخلت مديحة لإقناع زوجها بضرورة تصوير المشهد كونه يحمل دلالة درامية لا يمكن تجاوزها، إلا أنه ثار في وجهها قائلا:

لا أنا منضربش من واحدة ست وكمان مراتي، المشهد ده مش ممكن يتصور.

وتعطل التصوير فعلاً لأكثر من ساعة توترت فيها الأجواء بصورة لم تشهدها من قبل كواليس أي من أفلام فوزي، خصوصاً مع إصراره على حذف المشهد، وهو ما رفضه نيازي جملة وتفصيلا لدرجة أنه هدد بالانسحاب من الفيلم.

وبعد نقاشات مطولة شارك فيها معظم العاملين في الفيلم، اقترح على فوزي أن يحمله العمال الذين من المفترض أنهم يعملون بمحل أزياء حكمت إلى حجرة، وبعد دقائق نسمع صوته وهو يصرخ {أي أي}.

وافق فوزي، على مضض، تصوير المشهد على هذا النحو، فلا يظهر إلا خياله من وراء زجاج الحجرة المصنفر، إلا أن مديحة همست في أذنه، بعد انتهاء التصوير، ممازحة: {ما أنت برضه اتضربت قدام الجمهور}.

قالتها مديحة وانصرفت سريعاً، فيما صوت ضحكاتها يملأ المسرح.

البقية في الحلقة المقبلة