الانفتاح على المعتقدات
التقى جمع من العلماء والأدباء والأعلام من دول مجلس التعاون المختلفة وبريطانيا في "ملتقى ثقافي" بهيج، نظمته إدارة "الوقف الجعفري" و"جمعية المستقبل الثقافية الاجتماعية"، في الكويت 5/ 3/ 2014م للاحتفاء بموسوعة "دائرة المعارف الحسينية" التي صدرت في (86) مجلداً ويتوقع وصولها إلى 500 مجلد فأكثر، لتكون هذه الموسوعة هي الأكبر في دائرة المعارف الإسلامية، وقد قال عنها رئيس باكستان السابق: "إنه عمل موسوعي لا نظير له في تاريخ تدوين دوائر المعارف".انطلقت هذه الموسوعة من قلب عاصمة الغرب لندن عام 1986 عبر "المركز الحسيني للدراسات" على يد شخص واحد، كرس حياته لهذا العمل الجبار، هو الفقيه المحقق د. محمد صادق الكرباسي، المقيم هناك، كان هذا اللقاء للتعريف بهذه الموسوعة الكبرى وتسليط الأضواء على جوانبها التاريخية والفقهية والأدبية والإنسانية المختلفة، وحقيقة فإن الإمام الحسين، عليه السلام جدير بهذا العمل المعرفي الرائع، فحياته جسدت القيم الرفيعة، وكفاحه كان مصدر إلهام لكل دعاة الإصلاح من بعده، ومن وحي تلك القيم واستلهاماً من هذا العمل الفذ، جاءت ورقتي عن الانفتاح على المعتقدات.
نحن اليوم نعيش في عالم يسعى إلى التقارب والتعاون وإزالة الحواجز بين شعوبه، لتعزيز المشترك الإنساني والأخلاقي والديني ممثلاً في الإيمان بالخالق عز وجل والعمل الصالح والقيم المشتركة وحقوق الإنسان وكرامته، إننا نعيش اليوم في عصر يواجه فيه البشرية، تحديات عديدة، تتطلب من أصحاب الأديان والحكماء وأهل الاعتدال والعقلانية، جهداً مشتركاً لمواجهتها وصولاً إلى عالم أفضل وأسعد، هناك نزاعات ملتهبة في بقاع كثيرة من عالمنا، وهناك صراعات دموية على امتداد الساحة العربية تحصد أرواح أبرياء كل يوم باسم الدين، والدين منها براء، وهناك طغيان القوي على الضعيف، وهناك أوضاع مأساوية تعيشها شعوب والملايين من اللاجئين والنازحين، وهناك استغلال واتجار بالبشر، وهناك تخوين وتكفير ومنابر وقنوات تغذي الكراهية والتحريض والفرقة، وكل ذلك يضاعف من مسؤولياتنا ويذكرنا بواجبنا الإنساني والأخلاقي والديني، وأتصور أن ذلك الواجب يتحقق بالجهد المشترك نحو إيقاظ الضمير الإنساني وتفعيله، ومثل هذا اللقاء الحيوي، وفي ظلال أجواء هذه الموسوعة الكبرى، مناسبة طيبة لبث رسالتنا الأخلاقية لمجتمعاتنا وللعالم.لقد تزايدت احتياجات البشرية بعضها لبعض، وأصبح العالم معنياً ببعض، وتداخل الداخلي بالخارجي كما أصبح الخارجي مؤثراً في الداخلي، هناك مصالح متبادلة، وهناك قبل كل شيء، إرث إنساني مشترك، يجب العمل على الحفاظ عليه وصيانته في إطار من الاعتراف بالتنوع والاختلاف، وعلى أساس احترام الخصوصيات والاجتهادات السياسية والمذهبية، وكل هذا يفرض علينا أن ننفتح على بعضنا عبر "الحوار الإيجابي البناء" لتأسيس أرضية مشتركة تخفف من أسباب التوتر وسوء الفهم وسوء الظن والكراهية والتشكيك والتربص المتبادل، إن "الانفتاح الإيجابي" و"الحوار العقلاني" معينان على تعزيز القواسم المشتركة وتفعيلها بما يحقق المصالح المتبادلة ويعمق الإخوة ويراعي التنوع ويعزز القيم ويضمن الارتقاء، ويحقق السلام العام لنا جميعاً، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في كلمة معجزة "لتعارفوا" التي تقرر أن الاختلاف إرادة إلهية عليا، بهدف التعارف بين البشر، وبما يمنع فرض ثقافة واحدة وفكرا واحدا واجتهادا سياسيا واحدا أو عقيدة واحدة على البشر جميعاً، وقد أكدت هذه المعاني، الآية الأخرى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ".القرآن الكريم نفسه، أقوى مؤسس لشرعية الاختلاف، يقول المفسرون: "خلقهم ليختلفوا وليتنافسوا من أجل إعمار الأرض وإثراء الحياة، إننا جميعاً مطالبون، وبوحي من أدياننا وأخلاقياتنا وقيمنا الإنسانية، بالانفتاح على بعضنا وبالاحترام المتبادل والتعاون المثمر وبغرس قيم التسامح في نفوس وضمائر أبنائنا وناشئتنا، بما يحقق إمكانية التعايش والتآخي الإنساني والتعاون في نشر الفضائل ونبذ الكراهية والتعصب والعنف".الأرضية المشتركة: إن واجبنا الديني والأخلاقي والإنساني، يفرض علينا جميعاً السعي نحو ترسيخ أرضية مشتركة بيننا، بعض النظر عن اختلافاتنا الدينية والمذهبية والسياسية، انطلاقاً من جملة حقائق:الأولى: الإيمان بأن الاختلاف، حقيقة إنسانية وكونية وفطرية، تثري الحياة وتعين على الارتقاء، عبر التنافس الخلاق، مصداقاً لقوله تعالى "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". الثانية: إن ما يجمع البشر، أكثر بكثير مما يفرقهم، فالقواسم الدينية والأخلاقية والثقافية والاقتصادية هي التي تحتل مساحة أكبر في العلاقات بين الناس عبر مر التاريخ الإنساني.الثالثة: إنه لا سبيل أمامنا إلا تفعيل القاعدة الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا".الرابعة: إن الأديان، وإن اختلفت شرائع ومناهج، فأصولها واحده من حيث الألوهية والعمل الصالح والحساب والجزاء والقيم الأخلاقية وكرامة الإنسان.كيف نفعِّل الانفتاح المثمر؟ إن تحقيق ذلك يتطلب العمل الجاد على جبهتين:الجبهة الداخلية: بتفعيل الحوار الداخلي بين مكونات المجتمع الواحد كافة، دون إقصاء لأي طرف أو تخوين أو تكفير أو تجريح أو تفسيق أو تشويه، وذلك بإخضاع كل المنظومات المجتمعية (الفكرية والسياسية والثقافية) لعمليتي المراجعة والتقويم، وصولاً إلى مواطن الخلل وتصحيحها، مصداقاً لقوله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وانطلاقاً من أننا لن نتوصل إلى علاقة صحية ناضجة مع الآخر الخارجي، إلا إذا أسسناها مع الآخر الداخلي وذلك بكفالة عدالة الفرص لكل مكونات المجتمع في التعليم والعمل والإعلام والمناصب.الجبهة الخارجية: عبر المزيد من التواصل والحوارات الهادفة إلى بناء جسور التفاهم الأفضل بين الشعوب والنخب الثقافية والفكرية والسياسية، بهدف تصحيح الصور النمطية السلبية لدى كل طرف تجاه الآخر، ولتعظيم الجوانب الإيجابية المشتركة واحتواء وتهميش الجوانب السلبية، إننا جميعاً نتحمل مسؤولية هذا العمل، ومن ثم يجب علينا جميعاً أن نتعاون لتفعيل منهج الحوار البناء بما يفعِّل مفهوم "المواطنة" بين أبناء المجتمع الواحد وبما يحقق معاني "الأخوة" بين أبناء الأمة الواحدة، وبما يقرب ويعمق الأواصر "الإنسانية" بين الشعوب وأتباع الأديان المختلفة، الحياة نعمة عظيمة، وهي عطية الخالق للإنسان، ويولد الإنسان محباً للحياة ولكن عوامل داخلية وخارجية تجعله شخصية متوترة تسعى إلى فرض الرأي وإقصاء الآخر، اعتقاداً واهماً بتملك الحقيقة الكاملة.* كاتب قطري