إذا كنا قد تعلمنا أي شيء منذ بلغت الأزمة المالية العالمية ذروتها في عام 2008، فهو ان منع أي أزمة أخرى مهمة أصعب كثيراً مما توقع أغلب الناس. وليس الأمر أن منع الأزمة بشكل فعّال يتطلب الإصلاح الشامل لمؤسساتنا المالية من خلال التطبيق الخلاق لمبادئ التمويل الجيد فحسب؛ بل ويحتاج الأمر أيضاً إلى فهم مشترك بين الساسة وناخبيهم لهذه المبادئ.
لكن من المؤسف أن مثل هذا الفهم غائب اليوم، والحلول أكثر فنية من أن تستوعبها أغلب التقارير الإخبارية الموجهة إلى عامة الناس، وفي حين يحب الناس أن يسمعوا عن "كبح جماح" أو "عقاب" قادة قطاع التمويل، فإنهم أقل حماساً في مطالبة هؤلاء الناس بتوسيع أو تحسين إدارة المخاطر المالية. ولكن لأن جماعات المصالح الخاصة نشأت وتطورت حول المؤسسات والممارسات القائمة، فإننا عالقون معها في الأساس وعُرضة لأقل هزة أو صدمة.إن الأزمة المالية، التي لا تزال مستمرة والتي تولدت عن موجة رواج أسعار المساكن ثم كسادها والتي سبقت الأزمة لسنوات عديدة (بلغت أسعار المساكن ذروتها في الولايات المتحدة في عام 2006). وخلال طفرة ما قبل الأزمة، تَشَجَع مشترو المساكن على الاقتراض بكثافة لتمويل استثمارات غير متنوعة في مسكن واحد، في حين قدمت الحكومات الضمانات للمستثمرين في الرهن العقاري. وفي الولايات المتحدة، حدث هذا من خلال ضمانات ضمنية تتألف من أصول تحتفظ بها إدارة الإسكان الفدرالية ووكالات الرهن العقاري مثل فاني ماي وفريدي ماك.في جلسة توليت رئاستها في الاجتماع الأخير للجمعية الاقتصادية الأميركية في فيلادلفيا، ناقش المشاركون صعوبة استخلاص أي إصلاح معقول من الحكومات في أنحاء العالم المختلفة. وفي ورقة بحثية مقدمة إلى الجلسة، تحدث أندرو كابلين من جامعة نيويورك عن افتقار عامة الناس إلى الاهتمام أو فهم المخاطر المتزايدة المرتبطة بإدارة الإسكان الفدرالية، والتي كانت تضمن قروض الرهن العقاري الصادرة من القطاع الخاص منذ إنشائها خلال أزمة الإسكان في ثلاثينيات القرن العشرين.وقد اتفق مع كابلين مناظره جوزيف جيوركو من كلية وارتون. ووفقاً لدراسة أجراها جيوركو بنفسه في عام 2013، فإن إدارة الإسكان الفدرالية، والتي توظف فعلياً روافع مالية بنسبة ثلاثين إلى واحد على ضمانات قروض الرهن العقاري التي بلغت نسبة روافعها المالية أيضاً ثلاثين إلى واحد، أصبحت قيمة أصولها الآن أقل من إجمالي الأقساط المستحقة من قروض الرهن العقاري بما يقدر بعشرات المليارات من الدولارات. وهو يريد إغلاق إدارة الإسكان الفدرالية والاستعاضة عنها ببرنامج ادخار مدعوم لا يحاول المنافسة مع القطاع الخاص في تقييم مخاطر الرهن العقاري.وعلى نحو مماثل، أدلى كابلين بشهادته في عام 2010 أمام لجنة الإسكان الأميركية المعنية بالخدمات المالية بأن إدارة الإسكان الفدرالية كانت في خطر شديد، وذلك بعد عام منذ أبلغ مفوض إدارة الإسكان الفدرالية ديفيد ستيفنز نفس اللجنة بأن اللجنة "لن تحتاج إلى برنامج إنقاذ". ومن الواضح أن بحث كابلين لم يلق استحساناً لدى مسؤولي إدارة الإسكان الفدرالية الذين كانوا معادين لكابلين ورفضوا منحه البيانات التي طلبها. والواقع أن إدارة الإسكان الفدرالية كانت تقدر خسائرها بأدنى من حقيقتها كل عام منذ ذلك الوقت، في حين كانت تعلن أنها على خير ما يرام. وأخيرا، في سبتمبر، اضطرت الإدارة إلى السعي إلى الحصول على برنامج إنقاذ من الحكومة.وفي الجلسة سألت كابلين عن الجهود التي بذلها، بدءاً بالكتاب الذي شارك في تأليفه في عام 1997 بعنوان "شراكات الإسكان"، والذي اقترح فيه السماح لمشتري المساكن بشراء جزء فقط من المسكن، وبالتالي تقليل مخاطر التعرض من دون تعريض دافعي الضرائب للخطر. والواقع أن تنفيذ هذه الفكرة المبتكرة كان سيقلل من ديون أصحاب المساكن. ولكن برغم أن سوق الرهن العقاري التي اعتمدت بكثافة على الروافع المالية هي التي أشعلت الأزمة المالية بعد 11 عاماً، فإن هذه الفكرة كما قال لم تحقق تقدماً في أي مكان في العالم.فسألته لماذا؟ لماذا لا يستطيع المبدعون مع محاميهم إنشاء مثل هذه الشراكات بين أنفسهم ببساطة؟ وكانت إجابته معقدة؛ ولكن في الولايات المتحدة على الأقل هناك مشكلة كبيرة تلوح في الأفق: رفض دائرة الإيرادات الداخلية في الولايات المتحدة لإصدار حكم مسبق حول الكيفية التي يمكن بها فرض الضريبة على مثل هذه الترتيبات لإدارة المخاطر. ونظراً للشكوك الناتجة عن ذلك فلم يعد أحد في مزاج يسمح بالإبداع.ومن ناحية أخرى، هناك مطالبة شعبية قوية- وغاضبة وملحة- باستجابة من قِبَل الحكومة تهدف إلى منع اندلاع أي أزمة أخرى وإنهاء مشكلة المؤسسات المالية "الأكبر من أن يُسمَح لها بالفشل". ولكن الواقع السياسي يتلخص في أن المسؤولين الحكوميين يفتقرون إلى المعرفة الكافية والحافز لفرض الإصلاحات الفعّالة ولكنها تنطوي على تفاصيل فنية بالغة التعقيد.على سبيل المثال، تم تبني إصلاح في الولايات المتحدة للمساعدة في منع مشكلة المؤسسات الأكبر من أن يُسمَح لها بالفشل، والذي يتلخص في قاعدة احتجاز المخاطر المنصوص عليها في قانون "دود- فرانك" لعام 2010. فمن أجل ضمان تحميل المؤسسات التي تعمل على تحويل الرهن العقاري إلى أوراق مالية جزء من المسؤولية، يتم إلزامها بالاحتفاظ بحصة بنسبة 5 في المئة في أوراق الرهن العقاري المالية التي تصدرها (ما لم تكن مؤهلة للإعفاء من ذلك).ولكن في ورقة بحثية أخرى قُدِّمَت في جلستنا، زعم بول ويلين من مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) الأميركي في بوسطن أن إنشاء مثل هذا التقييد ليس على الإطلاق الطريقة الأفضل لتمكين الحكومة من تحسين عمل الأسواق المالية. فالمستثمرون يعلمون بالفعل أن الناس يصبح لديهم حافز أقوى لإدارة المخاطر بشكل أفضل إذا احتفظوا بحصة في المخاطر. ولكن المستثمرون يعلمون أيضاً أن بعض العوامل الأخرى قد تبدد المزايا المترتبة على الاحتفاظ بحصة في المصلحة في حالات محددة. وفي محاولة لموازنة هذه الاعتبارات تجد الحكومة نفسها في مواجهة معضلة كبرى.ويظل الإصلاح الأساسي لأسواق الإسكان شيئاً يقلل من فرط استدانة أصحاب المساكن والافتقار إلى التنوع. وفي ورقتي البحثية التي قدمتها في الجلسة، عُدت إلى فكرة تشجيع الحكومة لقروض الرهن العقاري التي يصدرها القطاع الخاص مع تجربتها مسبقاً، وبالتالي تأمينها ضد كارثة الانتهاء إلى أقساط رهن أكبر من قيمة المسكن في السوق بعد هبوط أسعار المساكن. وعلى غرار شراكات الإسكان، فإن هذا يشكل إصلاحاً جوهريا، لأنه كفيل بمعالجة المشكلة الأساسية التي أدت إلى اندلاع الأزمة المالية. ولكن لا توجد قوة دفع كافية لمثل هذا الإصلاح من جانب جماعات المصالح القائمة أو وسائل الإعلام.ويطرح أحد مناقشينا في الجلسة جوزيف تراسي من بنك الاحتياطي الفدرالي في نيويورك (والمؤلف المشارك لكتاب شراكات الإسكان)، المشكلة بإيجاز: "إن مكافحة الحرائق أكثر بريقاً من الوقاية من الحرائق". فكما يبدي أغلب الناس اهتماماً زائداً بالقصص التي تدور حول الحرائق مقارنة باهتمامهم بالتفاصيل الكيميائية المتعلقة بآليات تثبيط الحرائق، فإنهم أيضاً يبدون اهتماماً زائداً بالقصص التي تدور حول الانهيارات المالية مقارنة باهتمامهم بالتدابير المطلوبة لمنع هذه الانهيارات. وهذه ليست الوصفة المفضية إلى نهاية سعيدة.* روبرت جيه. شيلر | Robert J. Shillerحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد لعام 2013، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ييل، والمؤلف المشارك، مع جورج أكيرلوف، لكتاب "الغرائز الحيوانية: كيف تدفع الحالة النفسية البشرية الاقتصاد ولماذا يشكل هذا أهمية بالنسبة للرأسمالية العالمية".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
النيران المالية في المرة القادمة
31-01-2014