أدوار جديدة في عالم قديم

نشر في 18-07-2014
آخر تحديث 18-07-2014 | 00:01
رغم استحالة التكهن بالكيفية التي قد تتطور بها السياسة الصينية، فإن تجارب الدول الأخرى تشير إلى أن التغير السياسي يحدث غالباً عندما يبلغ نصيب الفرد في الدخل نحو عشرة آلاف دولار، وإذا حدث مثل هذا التغيير، فإن أوروبا سوف تحظى بالفرصة لتعزيز قيمها الأساسية بطريقة أكثر فعالية.
 بروجيكت سنديكيت كان صعود الصين سبباً في إثارة العديد من علامات الاستفهام في الغرب، فيتساءل البعض ما إذا كانت الصين تستعد لاغتصاب الدور القيادي العالمي الذي تلعبه أوروبا المجهدة، وعلى حد تعبير أحد الكتاب: "لا تستطيع الحكومات الأوروبية أن تفعل الكثير في شرق آسيا غير القيام بدور مديري التسويق لشركاتها المحلية". فمع افتقارها إلى الوزن الدبلوماسي والثِقَل العسكري لإحداث انطباع قوي في المنطقة، كان من الأفضل لأوروبا أن تترك المهام الثقيلة للولايات المتحدة، ولكن لا ينبغي لهذه الحال أن تدوم.

الواقع أن العواقب المترتبة على صعود الصين بالنسبة إلى أوروبا بعيدة المدى، بدءاً بـ"محور" الولايات المتحدة الاستراتيجي نحو آسيا، فبعد أن كانت طيلة سبعين عاماً على رأس أولويات الولايات المتحدة، بدأت أوروبا تفقد مكانتها المتميزة في أعين صناع السياسات الأميركيين، وعلاوة على ذلك، فإن المبيعات الأوروبية من المنتجات العالية التقنية ذات الاستخدام المزدوج والتي تعمل على تعقيد الدور الأمني الذي تلعبه أميركا في آسيا من المحتم أن تخلق احتكاكات.

ومع ذلك فإن التحذيرات من تآكل الشراكة الأطلسية في غير محلها، فقد استعاضت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن مصطلح "محور"، الذي يعني ضمناً الابتعاد عن شيء ما، بمصطلح "إعادة التوازن"، ويعكس هذا التغيير الاعتراف بأن هيمنة الصين الاقتصادية المتزايدة لا تنفي أهمية الاتحاد الأوروبي، الذي يظل الكيان الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم والمصدر الرائد للإبداع الاقتصادي، ناهيك عن قيم مثل حماية حقوق الإنسان.

ولا يعني هذا أن صعود آسيا لن يتطلب بعض التعديلات، فعندما بدأت الثورة الصناعية، بدأت حصة آسيا في الاقتصاد العالمي تنحدر من أكثر من 50% إلى 20% فقط بحلول عام 1900، ومن المتوقع بحلول النصف الثاني من هذا القرن أن تستعيد آسيا هيمنتها الاقتصادية السابقة- أي أنها سوف تمثل 50% من الناتج العالمي- في حين تنتشل مئات الملايين من الناس من براثن الفقر.

والواقع أن تحول القوى على هذا النحو- والذي ربما يكون الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين- ينطوي على مخاطر جسيمة، فكثيراً ما يحذرنا المؤرخون من أن الخوف وعدم اليقين المتولد عن نشوء قوى جديدة مثل الصين من الممكن أن يؤدي إلى صراعات خطيرة، مثل تلك التي شهدتها أوروبا قبل قرن من الزمان، عندما تفوقت ألمانيا على المملكة المتحدة في الإنتاج الصناعي.

وفي ظل النزاعات الإقليمية والتوترات التاريخية التي تمزق آسيا فإن الحفاظ على استقرار التوازن الأمني لن يكون بالمهمة السهلة، ولكن هناك بعض الأدوات التي قد تساعد.

في تسعينيات القرن العشرين، عندما كانت إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون تدرس كيفية الاستجابة للقوة الاقتصادية المتزايدة في الصين، أوصى بعض المراقبين بانتهاج سياسة الاحتواء، ورفض كلينتون هذه النصيحة: إذ كان من المستحيل تشكيل تحالف مناهض للصين، نظراً لرغبة جيران الصين الدائمة في الاحتفاظ بعلاقات طيبة معها؛ والأمر الأكثر أهمية هو أن مثل هذه السياسة كانت ستضمن العداوة مع الصين في المستقبل.

وبدلاً من هذا، اختار كلينتون السياسة التي يمكننا أن نطلق عليها وصف "الدمج والتأمين"، وفي حين كان التحاق الصين بعضوية منظمة التجارة العالمية موضع ترحيب، فقد أحيت أميركا معاهدتها الأمنية مع اليابان.

وإذا لاحقت الصين "نهضة سلمية"، فسوف يركز جيرانها على بناء علاقات اقتصادية قوية معها، أما إذا ألقت بثِقَلِها من حولها- وهو ما يزعم البعض أن تصرفات الصين الأخيرة على الحدود الهندية وبحري الصين الشرقي والجنوبي يوحي به- فإن جيرانها سوف يسعون إلى موازنة قوتها بالاستعانة بالوجود البحري الأميركي.

ولكن أين موضع أوروبا في هذه الصورة؟ بادئ ذي بدء، ينبغي لأوروبا أن ترصد الصادرات الحساسة وتفرض القيود عليها لتجنب زيادة الوضع الأمني خطورة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. حتى من منطق الحسابات التجارية، فإن أوروبا لديها مصلحة في الاستقرار الإقليمي والممرات البحرية الآمنة.

وعلاوة على ذلك، تستطيع أوروبا أن تساهم في تطوير المعايير التي تشكل البيئة الأمنية، على سبيل المثال، بوسع أوروبا أن تلعب دوراً مهماً في تعزيز تفسير عالمي لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون البحار، بدلاً من نسخة الصين الشاذة، وخاصة أن الولايات المتحدة لم تصدق حتى على المعاهدة بعد.

خلافاً لادعاءات بعض المحللين، فإن الصين ليست دولة رجعية مثل ألمانيا النازية أو الاتحاد السوفياتي، وليست حريصة على الإطاحة بالنظام الدولي الراسخ، والواقع أنه ليس من مصلحة الصين أن تدمر المؤسسات الدولية- مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي- التي ساعدت في تسهيل صعودها. ونظراً للدور الرائد الذي تلعبه أوروبا في هذه المؤسسات، فإنها قادرة على مساعدة الصين في اكتساب الشرعية التعددية التي تسعى إلى الحصول عليها، في مقابل السلوك المسؤول.

ورغم أن الصين لا تحاول قلب النظام العالمي، فإنها تخضع حالياً لتحول عميق، ومزعزع للاستقرار، ومع صعود قضايا دولية مثل تغير المناخ والإرهاب والأوبئة والجرائم السيبرانية- التي جلبها التقدم التكنولوجي السريع والتغيرات الاجتماعية- أصبحت القوة الآن موزعة بين مجموعة واسعة من الكيانات غير التابعة لحكومات وليس بين الدول. وسوف تتطلب معالجة هذه التحديات التعاون الدولي على نطاق واسع، حيث تلعب كل من الصين والولايات المتحدة وأوروبا دوراً مهما.

وأخيرا، هناك مسألة القيم، فقد قاومت أوروبا بالفعل، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، المطالبات الصينية (والروسية) بفرض المزيد من الرقابة على الإنترنت، كما تلقت بلدان أوروبية مثل النرويج وألمانيا طواعية ضربات اقتصادية باسم حقوق الإنسان.

ورغم استحالة التكهن بالكيفية التي قد تتطور بها السياسة الصينية، فإن تجارب الدول الأخرى تشير إلى أن التغير السياسي يحدث غالباً عندما يبلغ نصيب الفرد في الدخل نحو عشرة آلاف دولار، وإذا حدث مثل هذا التغيير، فإن أوروبا سوف تحظى بالفرصة لتعزيز قيمها الأساسية بطريقة أكثر فعالية.

ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت مصلحة الصين الاقتصادية في الحياة في ظل نظام عالمي نزيه يقوم على سيادة القانون قد تؤدي إلى قدر أكبر من حماية الحقوق الفردية، والصين وحدها هي التي ستتخذ القرار بهذا الشأن، لكن أوروبا قادرة على تقديم حجة قوية في دعم هذا الاتجاه.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye ، أستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "هل انتهى القرن الأميركي؟"، ومؤخرا تولى الرئاسة المشتركة لمناقشات مجموعة أسبن الاستراتيجية لتنظيم الدولة الإسلامية والتطرف في الشرق الأوسط.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top