هل أوكرانيا الفصل الأخير من الحرب الباردة؟

نشر في 24-02-2014
آخر تحديث 24-02-2014 | 00:01
نرى في أوكرانيا اليوم قيماً قد تبدّل التاريخ، فبما أن الدولة-الأمة تُعتبر إطاراً ضرورياً للحرية السياسية المستدامة فلا مفر من الوطنية، مع أنها تشكّل اندفاعاً غير كافٍ لدعم الحرية.
 واشنطن بوست في الرابع من شهر أغسطس المقبل سيكون قد مرت مئة سنة على اليوم الذي أعلنت فيه بريطانيا الحرب على ألمانيا، وصوت فيه الاشتراكيون في "الرايخستاغ" الألماني على تخصيص المبالغ اللازمة لتمويل الحرب. شعر الماركسيون، بمن فيهم لينين، الذي كان آنذاك في زيارة لما يُعرف اليوم ببولندا، بالإهانة، فقد نادى ماركس أن البروليتاريا لا وطن لها، بل تعتمد على طبقة أممية وفية للبروليتاريين أينما كانوا. كتب لويس فيشر، أهم مؤرخي مسيرة لينين: "في عام 1918، تحوّلت القومية والوطنية، اللتان ولدتا من الذاتية التي يمقتها لينين، إلى جريمة عقائدية في روسيا السوفياتية".

نرى في أوكرانيا اليوم قيماً قد تبدّل التاريخ، فبما أن الدولة-الأمة تُعتبر إطاراً ضرورياً للحرية السياسية المستدامة، فلا مفر من الوطنية، مع أنها تشكّل اندفاعاً غير كافٍ لدعم الحرية. توقع ماركس، الذي بدت توقعاته مبالغاً فيها لأنها كانت كلها خاطئة تقريباً، نهاية القومية، فاعتبر أن القوى السياسية تحدد الوقائع السياسية والثقافية والنفسية، لذلك كانت الرأسمالية مع تداخلها مع الحركة الكونية الكوزموبوليتية ستؤدي، في رأيه، إلى تراجع كل مشاعر التعلق بالأمة، حتى إنها ستختفي تقريباً، لكن الاضطرابات الأوكرانية الأخيرة تشكّل دليلاً دامغاً، وإن متكرراً، على خطأ الماركسية.

أملت النخب السياسية، التي شكّلت الاتحاد الأوروبي، أن يقضي جمع سيادة كل الدول الوطنية معاً على القومية التي دمّرت أوروبا في القرن العشرين، حسبما تظن؛ لذلك تعتبر هذه النخب "نقص الديمقراطية" الناجم (نقل امتيازات البرلمانات الوطنية إلى بيروقراطيي بروكسل) ثمناً يستحق العناء مقابل التنعم بالهدوء.

ولكن ها نحن نقف اليوم أمام الاضطرابات في أوكرانيا التي تضج بالقومية والتي تسعى جاهدةً للحفاظ على سيادتها بإقامة علاقات لصيقة مع الاتحاد الأوروبي.

يقاوم الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش رغبة الشعب في تشكيل حكومة تتقيد بالدستور ووجود وطني أكثر استقلالاً عن وجود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيود يانوكوفيتش أن يستبدل طموحات أوكرانيا بالمليارات الروسية.

تخضع روسيا اليوم لحكم "موسوليني" صغير متفاخر (كان موسوليني يهوى، على غرار بوتين، التقاط الصور له وهو عاري الصدر وذراعاه مفتولتان)، ويأبى بوتين تقبّل "مأساة" انهيار الاتحاد السوفياتي، كما يدعوها. ففي جهاز القمع السوفياتي، شحذ هذا الزعيم الروسي المهارات التي يحكم من خلالها، ومنها الرقابة، والفساد، والوحشية، والقمع، والاغتيال.

أتذكرون حين نظر الرئيس جورج بوش الابن إلى عينَي بوتين و"شعر بروحه" ورآه إنساناً "صريحاً وجديراً بالثقة"؟ أتذكرون حين روى بوتين للعالم قصة خروجه راكضاً وهو عارٍ من منزله المحترق (اشتعلت النار حين كان في حمام السونا) قبل إنقاذ صليبه الغالي الذي كان ملكاً لوالدته التقية؟ لكن الأوكرانيين، الذين حصّنهم تاريخهم الصعب ضد غباء تعليل النفس بالأماني، يرون في وجه بوتين الماكر عيني سجان باردتين.

تُعتبر أوكرانيا، التي تضاهي إسبانيا بعدد سكانها (46 مليونًا) ومساحتها، قوة اقتصادية محتملة، أما روسيا، فما زالت على حالها منذ عهد الاتحاد السوفياتي: دولة من دول العالم الثالث تتمتع بتكنولوجيا عسكرية عالية التطور، فاقتصادها البدائي (سمِّ أي سلع استهلاكية روسية أخرى غير الفودكا والكافيار) يرتكز على الصناعات الاستخراجية، مثل النفط والغاز والمعادن.

يبدو ازدراء بوتين بباراك أوباما واضحاً، فيُعتبر دعم روسيا الراسخ لبشار الأسد من الأسباب التي سمحت للرئيس السوري، وفق مدير الاستخبارات في إدارة أوباما، "بتقوية" موقفه في الفترة التي تلت إعلان أوباما أن على الأسد "التنحي". كذلك لم تقدّم روسيا مساعدة تُذكر لدعم محاولات الولايات المتحدة وقف برنامج إيران النووي العسكري. وما النجاح الذي حققته محاولة أوباما "لإعادة ضبط" العلاقات مع روسيا، علماً أن هذه المحاولة حظيت بترويج كبير، مع أنها لم تُحدَّد بدقة؟

رغم ذلك، يبدو أوباما متمسكاً بها إلى حد أنه يخشى المخاطر بإثارة استياء بوتين بتعبيره علانية عن دعمه كامل للمتظاهرين الأوكرانيين. شارك أوباما في شن حرب ضد ليبيا دامت سبعة أشهر، مع أن هذه الأمة لا تشكّل أي تهديد للولايات المتحدة ولا تُعتبر بالغة الأهمية بالنسبة إليها، ورغم ذلك، يُعتبر اتصال جو بايدن الأخير بيانوكوفيتش ردّ أوباما الأقوى تجاه الأزمة الأوكرانية، مع أن هذه الأخيرة تؤدي دورا مهماً جداً في تحديد المسار السياسي في القارة الأوروبية.

باتت أوروبا اليوم باهتة سياسياً، بعد أن كانت طوال قرون ساحة للكثير من المعتقدات المتناحرة، أما كقوة عسكرية أو دبلوماسية، فتبقى "أوروبا" مصطلحاً جغرافياً أكثر منه سياسياً. رغم ذلك، لم تفقد الثقافة السياسية الأوروبية كامل قوتها، وإذا لم يصبح فقدان الذاكرة التاريخي كاملاً بعد في أوروبا، يجب أن تسمع أصداء عام 1848 و1989 في أصوات الأوكرانيين اليوم.

دام الاتحاد السوفياتي ("إحدى تجارب التاريخ المعاصر الأساسية"، وفق كلمات شبكة NBC المخادعة خلال تغطيتها الألعاب الأولمبية) سبعة عقود مؤلمة. وتُشكّل معاناة أوكرانيا صدى لعملية النهوض الطويلة بعد تلك "التجربة"؛ لذلك قد يكون هذا الفصل الأخير من الحرب الباردة، فهل يتذكر الرئيس الأميركي الرابع والأربعين الكثير من الكلام عن كيف ساهمت كلمات الرئيس الأربعين "حطموا ذلك الجدار!"، في الفوز بتلك الحرب؟

George F. Will جورج. ف ويل

back to top