هل توسع حلف شمال الأطلسي مصدر الغضب الروسي؟
بما أن دول البلطيق الثلاث تضم أكثر من مليون مواطن روسي ينتمي إلى الاثنية الروسية ممن يعيشون فيها كأقليات، ينمو الخوف من أن تتذرع موسكو بهذا الوضع لتتدخل في إحدى هذه الدول أو عدد منها، مع أنها دول أعضاء في حلف «الناتو».
لعل الوجه الأكثر غرابة في رد فعل الغرب تجاه الاعتداء الروسي على أوكرانيا طابعه التصاعدي، فبتركيز موسكو بذكاء على الأزمات المحلية الواحدة تلو الأخرى، مخفيةً دور القوات الروسية ومفبركةً الحجج للتدخل بالاستناد إلى مبادئ بالغة الأهمية مثل حماية حقوق الإنسان، نجحت بدقة في تفادي تجاوز عتبة ما قد يولّد رد فعل غربياً خطيراً. نتيجة لذلك، لا تبدو التضحية والمخاطرة بمواجهة روسيا خطوة تستحق العناء، إلا عندما ننظر إلى الخطر الذي يهدد المصالح الأوروبية في إطار أوسع (لا كجزء غامض من أوروبا الشرقية، بل كتحد يهدد كامل نظام ما بعد الحرب الباردة).يدّعي النقاد أن الغرب، بتوسيعه حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينتهك شروط إنهاء الحرب الباردة. تحمل هذه الحجة مقداراً من المنطق الأخلاقي، مشيرةً إلى أن العلاقات مع روسيا كانت ستبدو اليوم أقل صعوبة بكثير، لو أن الغرب (والولايات المتحدة خصوصاً) لم يتصرف بعجرفة تجاه خصمه المهزوم والمحبَط، لكن مسألة الأخلاق هذه لا تبدو محقة، إلا إذا كنا نعتقد أن توسع حلف شمال الأطلسي ينتهك أولاً تعهدات الغرب تجاه روسيا، ويهدد ثانياً أمن روسيا، لكن الوقائع تبرهن العكس.
إتفاقيات غامضةاشتكت الشخصية الأهم في هذه المسألة، الرئيس الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف، من أن الغرب انتهك تعهده الأبرز بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي، صحيح أن الحلفاء تعهدوا في اتفاقية إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 بعدم نشر قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي في ألمانيا الشرقية سابقاً، إلا أن هذه الاتفاقية وغيرها من المعاهدات، التي وُقعت في مطلع تسعينيات القرن الماضي (حتى مع التحليل الأكثر تساهلاً للتعابير والمصطلحات الدبلوماسية)، تُعتبر في أفضل الأحوال غامضةً في تناولها توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً. بالإضافة إلى ذلك، لم تتوقع الولايات المتحدة أو روسيا في تلك المرحلة تهافت بلدان أوروبا الشرقية على الانضمام إلى تحالف كان سيظهر قريباً. لذلك لم يكن هنالك أي أساس لالتزام حقيقي بالامتناع عن توسيع حلف شمال الأطلسي.وكما أن أسس توسع حلف شمال الأطلسي لم تخفِ أي نوايا سيئة، كذلك لم يكن لهذا التوسع أي تأثير سلبي في أمن روسيا، فقد تطلب الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في المقام الأول أن تتبنى الدول، التي تطمح إلى هذه الخطوة، القيم الليبرالية الغربية، مثل التعددية والسيطرة المدنية على الجيش، وحكم القانون، واحترام حقوق الإنسان. ولكن تؤكد روسيا في القرم وشرق أوكرانيا اليوم أن الحاجة إلى حماية أمن الأقلية الروسية يبرر تدخلها، وبما أن دول البلطيق الثلاث تضم أكثر من مليون مواطن روسي يعيشون كأقليات، ينمو الخوف من أن تتذرع موسكو بهذا الوضع لتتدخل في إحدى هذه الدول أو عدد منها، مع أنها دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي. قد لا يكون لهذه العضوية أهمية كبرى في نظر الكرملين، بيد أن الوقائع تُظهر أن حقوق المنتمين إلى الاثنية الروسية صارت مصونةً ومنظَّمة على نحو أفضل مع انضمام دول البلطيق هذه إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي على حد سواء. فقد عولجت المسائل الشائكة، مثل الجنسية، بطريقة شفافة جداً. وبخلاف ما نراه اليوم في القرم وشرق أوكرانيا، يتمتع المفوض السامي لشؤون الأقليات القومية في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بصلاحيات كاملة لدخول إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بغية التحقق من وضع الأقليات الروسية في هذه الدول ورفع التقارير بهذا الشأن.البعد عن العدائيةمن اللافت للنظر أن العلاقات بين روسيا ودول حلف شمال الأطلسي الفردية، من دول البلطيق إلى البلقان، تمتاز بوضوحها لا عدائيتها، فما من دليل على أن أي دولة من دول حلف شمال الأطلسي استغلت عضويتها في هذا الحلف لتروّج لمطالب انتقامية، أو تعزز التمرد، أو تهدد الأمن الروسي. صحيح أن إستونيا تبنت أحياناً خطاباً استفزازياً معادياً لروسيا، لكن تالين هي مَن تعرضت لاعتداء إلكتروني عبر شبكات الإنترنت عام 2007، علماً أن هذا الاعتداء نُسب إلى روسيا. رغم ذلك، امتنعت إستونيا عن الرد واكتفى حلف شمال الأطلسي بالتعهد بمعالجة مشكلة الحرب عبر الإنترنت، وكما أن أعضاء حلف شمال الأطلسي واثقون من سيادتهم، هم كذلك واثقون من علاقاتهم مع روسيا. فقد أقامت معظم هذه الدول روابط تجارية واسعة مع روسيا، خصوصاً في مجال الطاقة، علماً أن هذا التطور يشكّل مصدر قلق للغرب لا لموسكو. كانت العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا مستقرة عموماً قبل الأزمة في أوكرانيا، فبإصرارٍ من روسيا، أنشأ هذا الحلف مجلساً مشتركاً بينهما، ما منح موسكو مكانةً فريدةً ميّزتها بوضوح عن زملائه الآخرين في حلف وارسو السابق، الذين اقتصرت علاقتهم مع حلف شمال الأطلسي على برنامج رمزي عموماً أُطلق عليه "الشراكة من أجل السلام"، ولم يحُل استياء موسكو من حرب كوسوفو عام 1999 دون ضم وحدات روسية بنجاح إلى قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي في ذلك البلد. كذلك أزعج هذا الحلف روسيا بوعده منح جورجيا العضوية عام 2008، إلا أنه لم يحرّك ساكناً ليتصدى لاستخدام روسيا القوة في هذا البلد في وقت لاحق من السنة عينها، ولم يبذل منذ ذلك الحين جهداً يُذكر ليروّج لانضمام جورجيا إلى صفوفه. بالإضافة إلى ذلك، كانت علاقة أوكرانيا مع حلف شمال الأطلسي أقل متانة بكثير، فقد شددت عواصم الدول الأعضاء في هذا الحلف (بما فيها واشنطن) مراراً على عدم التزام الحلف بالدفاع عن أوكرانيا.تدخل الأطلسي في ليبياأجج تدخل حلف شمال الأطلسي عام 2011 في ليبيا غضب الكرملين ولعب دوراً بارزاً في تحديد مواقف بوتين من الغرب، ولكن كما يعلم الرئيس الروسي جيداً، شكّلت ليبيا حالة استثنائية، فلا يميل الحلف إلى تكرار هذه المغامرة في سورية (حيث يبدو التدخل الروسي كبيراً) وغيرها. في الوقت عينه، بدأت مهمة حلف شمال الأطلسي الرئيسة في أفغانستان بالتراجع سريعاً مع تعاون روسيا في شبكة التوزيع الشمالية وانتهاء عهد "عمليات هذا الحلف في الخارج" التي لطالما رفضتها موسكو. لكن المفارقة تكمن في أن سلوك روسيا الأخير في أوكرانيا هو ما بث روحاً جديدة في حلف كان قد بدأ يتجه مرة أخرى نحو مرحلة من التشكيك في استمراريته.خلاصة القول، لم يشكّل توسع حلف شمال الأطلسي حبكة مناهضة لروسيا أو وسيلة يقوّض من خلالها الغربُ موسكو. على العكس، تمتعت روسيا عموماً بعلاقات جيدة مع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي كل منها على حدة ومع الحلف ككل، لكن توسع حلف شمال الأطلسي كان له تأثير سلبي بالغ في ادعاءات روسيا الاستعمارية. ولا شك أن هذه الادعاءات مختلفة كل الاختلاف عن الأمن الروسي، فلم يشكّل توسع حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي بأي شكل أو طريقة أو وسيلة خطراً يهدد روسيا، إلا في ما يتعلق بسعي هذا البلد إلى إعادة إحياء بعض أوجه الهيمنة السوفياتية الطراز. وتبدو روسيا بالغة الحساسية تجاه امتيازاتها الاستعمارية، حتى إن احتمال عقد شراكة مع الاتحاد الأوروبي (ما يُعتبر بعيداً كل البعد عن عضوية الاتحاد الأوروبي ولا دخل له بعضوية حلف شمال الأطلسي) كان كافياً لإشعال الأزمة الأوكرانية برمتها.عندما يجزم منتقدو الحلف أن توسع حلف شمال الأطلسي يشكّل سبب الخلاف الرئيس بين روسيا والغرب، يؤكدون عن غير عمد حق موسكو بالتصرف كقوة مهيمنة. فوحدها قوة توسعية مهيمنة، مثل روسيا، تصر على تحديد توجهات جيرانها الاستراتيجية. ومن الواضح أن دول البلطيق، مثل بولندا وغيرها من دول حلف وارسو السابق، كانت ستعاني اليوم وضعاً أصعب لو لم تنضم إلى حلف شمال الأطلسي، فكانت ستتخبط وسط صراعات داخلية مثل أوكرانيا، أو ستتحوّل إلى دولة مستبدة تابعة لروسيا مثل روسيا البيضاء، أو ستغرق في حالة وسط بين هذين الطرفين مثل أرمينيا. وعلى غرار هذه الدول غير المصلَحة التي تهيمن عليها روسيا، أخفقت هذه الأخيرة أيضاً في إجراء الإصلاحات الضرورية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ويُعتبر هذا السبب الحقيقي وراء "صعوبة العثور على موقع ملائم لروسيا" في عالم ما بعد الحرب الباردة.أخطاء الغربفي الختام، يبقى "مكان" روسيا في قلب المؤسسات الأوروبية-الأطلسية (حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي) التي تخوض اليوم صراعاً ضدها، ولا شك أن مسؤولية عدم تقدّم روسيا في هذا الاتجاه تقع على عاتق موسكو والغرب، الذي اقترف أخطاء كبيرة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لكن توسع حلف شمال الأطلسي ليس أحدها. لذلك، بدل أن نعود مرة بعد أخرى إلى قرار مسالِم لا يمكن الرجوع عنه اتُخذ قبل عقدين (قرار تلبية رغبة دول أوروبا الشرقية باحتلال مكانتها في أوروبا)، لنركز مناقشاتنا على كيفية دمج أعضاء حلف شمال الأطلسي القدماء والجدد معاً ليشكلوا قوة رادعة متينة في وجه أي اعتداء روسي إضافي.Edward Joseph