نهاية القذافي تمثل عدالة السماء... وكنت أتمنى أن تأتي بيد الشعب الليبي

نشر في 01-02-2014
آخر تحديث 01-02-2014 | 00:01
بين القذافي ومبارك تدور أحداث السطور التالية من مذكرات الإعلامي الكبير حمدي قنديل حيث يتطرق قنديل إلى أول لقاءاته التلفزيونية مع القذافي، وكيف أنها أثارت غضب «الرياض» ضد «راديو وتلفزيون العرب» ART، كما تتناول هذه الحلقة طرائف القذافي التي لا تنتهي ثم قراره بتأميم قناة «الليبية»، التي تعاقد معها لعرض برنامج «قلم رصاص» بعد وقفه من دبي، بتدخل مباشر من مبارك لدى نظيره الليبي... وصولاً إلى مشهد القذافي مقتولاً بشكل بشع في أحد أنابيب الصرف في مدينة «سرت».
مد الإرسال

في سبتمبر عام 1997 كنت أقدم برنامجاً في "راديو وتليفزيون العرب" ART، عندما ذهبت إلى القذافي في سرت لأجري معه حديثا بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة الفاتح.

بدأ القذافي بالحديث عن تاريخ العالم والأجناس التي سكنته ومؤامرات الاستعمار التي لا تنتهي والتحضير للثورة الليبية، ومع ذلك بدا حديثه متماسكاً في بعض الأحيان بل شائقاً إلى حد ما في أحيان أخرى.

عندما كادت الساعة المخصصة للحديث أن تنتهي تأهبت للختام، فإذا بيد تمتد من ورائي يقدم لي صاحبها ورقة صغيرة كتب عليها "تم مد الإرسال ساعة أخرى"، لم أتبين مَن صاحب اليد، ولكن المفاجئ أن طرف كم البدلة أكد أنها بدلة عسكرية.

تحدث القذافي عن مباريات كرة القدم واستنكر اقتصارها على 11 لاعبا فقط من كل فريق، وعندما سألته عن الحل المثالي من وجهة نظره قال إنه في الجماهيرية الشعبية لابد أن يشارك الشعب كله، ولا يقتصر دوره على الفرجة السلبية، وإنما أن ينزل الجميع إلى أرض الملعب.

«الجماعة زعلانين»

لم يكن حديثه عن الملاكمة مختلفاً كثيراً؛ إذ كان يعتبرها دلالة على أن البشرية لم تتخلص بعد من سلوكها الهمجي، وكان يرى أن الملاكمين والمتفرجين هم سلالة البشر الذين لم يتحضروا بعد.

سألته أيضاً لماذا يطالب بإلغاء رياض الأطفال، فقال: "أنا لست ضدها وحدها، أنا أنادي أيضا بإلغاء المدارس الابتدائية، رياض الأطفال والمدارس الابتدائية مثل تسمين الدجاج، لا أدري لماذا يرمي الناس أولادهم على هذا النحو، لماذا ينجبونهم ما داموا لا يستطيعون تربيتهم؟ التعليم الابتدائي تربية، والتربية يجب أن يكون مكانها البيت، أما رياض الأطفال فيقتصر دخولها على اليتامى".

بعد اللقاء التقيت الشيخ صالح كامل في باريس وكان وجهه ينطق بما في صدره، أوجز الشيخ صالح الموقف في كلمات صارت فيما بعد مثلاً يتردد كلما مرت برامجي بالمآزق التي ألفتها: "الجماعة زعلانين"، وأخبرني أنه تلقى مكالمة غاضبة من الرياض خلاصتها أنني كثيراً ما تركت القذافي يهذي دون أن أجادله.

هستيريا القائد

في مايو سنة 2009، كنت جالساً في سكني في لندن الذي يطل على حدائق كنسينغتون، امتداد "هايد بارك"، أتأهب لإجازة نهاية الأسبوع بعد أن أنهيت تسجيل الحلقة الخامسة من برنامجي "قلم رصاص" في قناة الليبية، عندما دخل عليَّ "توفيق" وهو يهذي بصوت عالٍ: "القائد القائد".

توفيق رجل ليبي طيب في المجمل، يعمل في مجال المقاولات على ما أظن، وهو صديق مقرب من عبدالسلام مشري رئيس مجلس إدارة مؤسسة "الغد" المسؤولة عن القناة، انتدبه ليكون مسؤولاً إدارياً يذلل العقبات أمام برنامجي في أسابيع انطلاقته الأولى، وقد عرفته متزناً رزيناً؛ الأمر الذي أثار دهشتي لما رأيته يصيح على هذا النحو الهستيري.

"القائد" لأي ليبي لا أحد غير القذافي، والقذافي كما كنت أعلم لا شأن له بنا أو بالقناة، القناة تصدر عن مؤسسة مستقلة عن الدولة هي مؤسسة "الغد".

هذا ما قاله لي مشري عندما التقينا في دبي لأول مرة، كنا في شهر يناير، وكان الرجل قد جاء ليتفاوض مع تلفزيون دبي على شراء بعض المسلسلات والبرامج من بينها برنامجي "قلم رصاص"، وعندما علم أن البرنامج أوقف اتصل بي فالتقينا وعرض عليَّ تقديم البرنامج في قناته، وشدد يومها على أن القناة ليست تابعة لإعلام الدولة، وأن "مؤسسة الغد" أطلقتها بتمويل من بعض المنظمات الأهلية، فطلبت منه أن يمهلني حتى نلتقي في طرابلس.

«ذو توجه حر»!

كانت الدنيا من حولي وأنا ذاهب إلى ليبيا قد أظلمت، ليس فيها طاقة نور واحدة، أخذت أحاسب نفسي حساباً عسيراً وأتدبر فيما إذا كان الخطأ خطئي أم خطأ غيري، لكن المحصلة في النهاية كانت جلية: لم تعد هناك بلاد تتحمل مشروعي، ولا هناك محطات ذات وزن يمكنها أن تطيق ما أقول.

جلست مع مشري رئيس مؤسسة "الغد" التي تشرف على قناة "الليبية" ساعات في طرابلس نبحث مشروع العقد الذي كان قد أعده، كان كل ما يهمني بالدرجة الأولى قدر الحرية المتاح، وانتهينا في ذلك إلى أن ينص العقد على أن البرنامج "ذو توجه حر"، وهو على ما أظن نص فريد من نوعه في مثل هذه العقود وإن كانت النصوص لا تضمن الكثير في النهاية.

طال النقاش فيما بعد حول مكان تصوير البرنامج، وانتهينا أخيراً إلى أن البرنامج سيصور في لندن؛ عاصمة الصحافة العربية المهاجرة.

إمبراطورية إعلامية

كان الألم يعتصرني وأنا ذاهب إلى المطار، وكأنني طريد بغير رجعة، كُتبت عليَّ الهجرة مرة أخرى، والأنكى هذه المرة أنني لم أكن أعرف إلى أي عالم أنا ذاهب، كيف هم هؤلاء القوم الذين سأتعامل معهم، وما بالضبط نظم العمل في تلك القناة التي ستأوي برنامجي؟

ما عرفته أن قناة الليبية كانت في منطقة نفوذ "مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية" التي شكلها القائد ليعمل تحت مظلتها الوريث سيف الإسلام، وكان قد تنامى دوره داخل ليبيا، وعندما بدأ الحصار أصبح وجهها المفضل في الغرب، خصوصاً بعد أن تأهل بشهادة دكتوراه عن الديمقراطية في المجتمع المدني حصل عليها من كلية الاقتصاد في جامعة لندن بعد أن قدم مليوناً ونصف المليون جنيه إسترليني منحة للجامعة.

لم ألتقِ سيف الإسلام، لا قبل عملي بـ"الليبية" ولا بعده، وعلى الرغم من أنه كان كثيراً ما يتردد على لندن متنقلاً على الطائرة الخاصة لمحمد رشيد الرجل الغامض المسؤول عن أموال منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه، على ما أعلم، لم يعقد اجتماعاً واحداً حول الإمبراطورية الإعلامية التي كثيراً ما كان يقال إنه على وشك إطلاقها من لندن، والتي كان يفترض أن قناة "الليبية" هي فصيلها المتقدم.

بلير الجشع

كان سيف الإسلام بالغ الاهتمام بالمال وشؤونه، وعلى الرغم من كل ما كان يشاع عن مهاراته وجولاته في المحافل السياسية فإنه لم يقترب من الساسة البريطانيين قدر اقترابه من ذلك الرجل الجشع المتصابي توني بلير الذي كان مستشاراً لوالده، وهو أيضاً الذي ساعده على نيل الدكتوراه على نحو ما نشرت الصحف البريطانية.

كانت الحلقة الأولى التي أذيعت يوم 26 مارس 2009 أكثر سخونة من التنويه، كان هناك مؤتمر قمة عربية على وشك الانعقاد خلال أيام، هذه المرة في الدوحة.

وهكذا انطلقت أصول وأجول في حديثي عن القمة وعن غيره من موضوعات الساعة، وحكيت أيضاً للمشاهدين عن ظروف مصادرة برامجي السابقة، وقلت: "بعضهم كتب لي أن أحوال الحريات في ليبيا عدمانة، قلت ده صحيح، إنما حد يقول لنا فين في أرض العروبة ممكن الواحد يتنفس؟ الوضع سيريالي والحل لازم يكون سيريالي، وفي كل الأحوال من أول يوم قالوا لي إخواننا في ليبيا مفيش خط أحمر، أنا ما اشتغلتش قبل كده في محطة إلَّا واتقال لي إنه مفيش خط أحمر، وبعد كده شفت الخط الأحمر والجن الأزرق، لكن دي أول مرة يتكتب لي في العقد أني أقدم برنامجاً ذا طبيعة حرة، وآدي إحنا، أنا وأنتم، حنشوف".

وفي مكان آخر في الحلقة قلت: "قلم رصاص حيفضل يدافع عن الحريات، وحيفضل ملتزم بالمبادئ القومية، وحيفضل ملتزم بمواجهة قوى الهيمنة الكبرى، حيفضل ملتزم بأن طريق السلام يجب أن تسنده المقاومة، حيفضل ملتزم بمطاردة فساد أصحاب السلطة وأصحاب الثروة، حيفضل ملتزم بمعارضة توريث الحكم في البلاد اللي بتسمي نفسها جمهورية ولَّا ثورية، ما احناش حنتحرك بالريموت كونترول، ولا حنتغير بتبديل القناة، حنتصادر، بس كل ما نتصادر حتزودنا المصادرة قوة وإيمان".

تأميم «الليبية»

بعد أن سجلت الحلقة الخامسة من البرنامج دخل عليَّ توفيق البيت، كما ذكرت، يهذي: "القائد، القائد".

تلقى مشري مكالمة من مكتب معمر القذافي تطلب منه إيقاف بث حلقة البرنامج التي كان مقرراً إذاعتها في المساء، فاعتذر عن عدم تنفيذ الأمر بأنه يتلقى تعليماته من سيف الإسلام، واتصل بسيف الإسلام يبلغه بما حدث فأمره بإذاعة الحلقة، وأذيعت الحلقة بالفعل في المساء، وعندها تتالت الأحداث.

في ساعات قليلة صدر قرار بحبس مشري داخل مكتب القذافي ذاته في باب العزيزية، ثم قرار آخر بإيقاف بث القناة، تلاه قرار ثالث بضمها إلى هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، وبعد منتصف الليل بقليل فوجئ العاملون في القناة بمعمر القذافي يدخل عليهم وبصحبته علي الكيلاني القذافي رئيس الهيئة، كانا وحدهما دون حراسة، وقف القذافي في ردهة مبنى القناة الأمامية وأخذ يجول فيها جيئة وذهاباً لدقائق معدودة، بعدها التفت إلى الكيلاني يسأله: "خلاص وضعت يدك على كل شيء؟"، ولما أجاب بالإيجاب غادر معمر.

أمم القذافي القناة هي وأخواتها، كان للخبر صدى كبير في صحف مصر المعارضة وفي الصحف العربية، وأرجع معظمها سبب تأميم القناة وإلغاء البرنامج إلى الحلقة الأخيرة التي تعرضت بالنقد لموقف مصر الرسمي من المقاومة الفلسطينية، وكذلك لتحويل عضو في "حزب الله" إلى النيابة بتهمة القيام بأنشطة وعمليات داخل الأراضي المصرية دون إخطار السلطات.

الحنين للوطن

المصادر الصحافية كلها أجمعت على أن "مبارك" كان غاضباً غضباً شديداً وأنه كلم القذافي، مساوماً حسب البعض ومهدداً حسب آخرين؛ مما أدى بالقذافي إلى تأميم القناة، الخلاصة أن "القذافي طوق أزمة مع مبارك بكبح الانتقادات الإعلامية"، كان هذا هو مانشيت جريدة "القدس العربي" يوم 28 أبريل 2009.

كنت قد زهدت الإقامة في الخارج وكان الحنين يجذبني إلى الوطن لأؤدي رسالتي هناك، فحزمت حقائبي عائداً إلى القاهرة؛ واتصلت بالصديق القديم محمود جبريل في طرابلس، وهو خبير دولي بارز في التخطيط، (بعد الثورة أصبح أول رئيس للمكتب التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي)، طلبت من جبريل أن يتدخل لدى من يعنيهم الأمر حتى تصرف مستحقاتي المتأخرة، فوعدني أن يطلب ذلك من رئيس الوزراء البغدادي المحمودي.

 وبالفعل اتصل بي في القاهرة في اليوم التالي ولكن لا ليبشرني بانتهاء المشكلة وإنما لينقل لي عرض المحمودي بأن أعود للعمل في القناة نفسها تحت إدارتها الحكومية الجديدة في طرابلس، فاعتذرت شاكراً.

شكوى وابتزاز

تأكدت من سبب إيقاف البرنامج وما لحق ذلك من تطورات، انزعج مبارك بداية لأن ليبيا أوت البرنامج بعد أن أوقف في دبي، وانزعج أكثر من مواصلتي لانتقاده بحدة، ويبدو أن انزعاجه بلغ حده عندما اتصل تليفونياً بالقذافي.

قال لي أحد الأصدقاء الليبيين الذين كانوا يحيطون بـ"القائد" إنه حضر المكالمة وأنها استغرقت 22 دقيقة، وأنها تناولت في البداية عدداً من المسائل الشائكة في العلاقات المصرية الليبية، ثم شكا مبارك من البرنامج، وعندما لم يعده معمر بإجراء محدد لوَّح مبارك في ابتزاز مكشوف بأنه قبل أيام منع إحدى الصحف القومية المصرية من فتح النار على القذافي شخصياً، وطلب منه صراحة أن يتخذ موقفاً لا يقل حسماً.

ولما كنت لا أشك في صدق الصديق الليبي فقد فتحت النار أنا الآخر، وأعلنت في أكثر من برنامج تليفزيوني استضافني بعد عودتي إلى القاهرة أن الرئاسة هي السبب في إيقاف "قلم رصاص"، ليس فقط في "الليبية" وإنما أيضا في قناة دبي.

الفقي وعزمي

بعد أيام اتصل بي المهندس أسامة الشيخ وقال إن وزير الإعلام أنس الفقي طلب منه إبلاغي أنه "يود أن ينقل لك رسالة مؤداها أن لا أحد في الرئاسة ضدك، بل إن الكل يرحب بعودتك إلى القاهرة ولا يمانع في أن تعمل بأي من المؤسسات المصرية".

ولم تمضِ أيام حتى طلبني الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان الرئاسة يبلغني بالرسالة نفسها وذات النص، حتى هيئ لي أنه إذا لم تكن مملاة من الرئيس السابق ذاته فلا بد أن أحداً ما أرسل نصها مكتوباً إلى الفقي وعزمي.

عندها قلت: "ولكن ذلك غير صحيح يا دكتور.. أنتم الذين أوقفتم البرنامج"، سألني زكريا عزمي إن كنت أملك دليلاً مادياً على ذلك، فأجبت بالإيجاب على الرغم من أنه لم يكن في حوزتي بالطبع مثل هذا الدليل، قال: "إذن نلتقي ونناقش الأمر"، أجبت بأن له أن يحدد الموعد والمكان، وكانت هذه آخر مرة أسمع فيها صوت زكريا عزمي.

شحنة غضب

ما إن مرت عدة أسابيع حتى كلمني علي ماريا القائم بأعمال مكتب المتابعة الليبي في القاهرة، كنا في مطلع شهر أكتوبر 2009، لم أعد أندهش مما تأتي به مثل تلك المكالمات من مسؤولين ليبيين، دعاني، باسم القذافي، لزيارة ليبيا "للمشاركة في الاحتفال الذي سيقام بمدينة سبها في الجماهيرية العظمى بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيس حركة الوحدويين الأحرار"، قررت أن أقبل الدعوة على الرغم من كل شيء لسبب وحيد أن أحصل على حقوقي وأغلق ملف "الليبية"، كنت عازماً على أن أحدث "القائد" في الأمر عندما ألتقيه، وكان ذلك مقرراً في اليوم التالي الذي سنذهب فيه إلى بلدة "سبها".

أُعد مسرح مفتوح كبير امتلأ بألوف من أهل "سبها"، تطل عليه منصة اصطففنا في ناحية منها ننتظر "القائد"، كان يبدو يومها أكثر وقاراً وأقل اندفاعاً، لم يطرق المائدة التي أمامه بقبضته، ولا رفع يديه وصوته مهللاً هاتفاً كعادته، ولم يقذف بورق بين يديه كما فعل في الأمم المتحدة أثناء كلمته.

جلس القذافي على المنصة يحيط به ضيوف الشرف القادمون من مناحي الأرض جميعاً، وجلست إلى جانبه ابنته عائشة، وأخذ منظمو الحفل يسوقون الضيوف إلى المنصة العريضة التي تعلو عن الأرض بضعة أمتار، وجاءني أحمد قذاف الدم يطلب مني الصعود إلى هناك لكنني اعتذرت، فقد كنت مشحوناً بالغضب من تعامل "الليبية" معي، وكنت أعرف أنني لو وقفت أمامه وجهاً لوجه فلا مناص من أن أتكلم بحدة، ولم أجد هذا لائقاً في مناسبة عامة كهذه المناسبة.

قصاص السماء

أشهد أن قذاف الدم كان كريما ليلتها معي، تفهم رغبتي في الجلوس في الحديقة دون أن يلح، ثم مر بي أكثر من مرة همس لي في إحداها بحكاية الطباخين الذين أهداهم زعيم يوغوسلافيا "تيتو" إلى "القائد"، وأخبرني بأن "السفرجية" الذين يقدمون لنا العشاء إيطاليون، تبهج معمر كثيراً مثل هذه اللفتات.

سادة ليبيا في الماضي يخدمون ضيوفها اليوم، على الرغم من أنه عفا عن إيطاليا بعد أن اعتذر رئيس وزرائها برلسكوني عن حقبة الاستعمار ودفع التعويض المناسب، ولو أنه أخذ في مقابل العفو ترضيات مجزية.

كانت هذه آخر مرة أرى فيها القذافي قبل أن يلقى مصيره البشع وهو مختبئ في أحد أنابيب الصرف في سرت، جفلت من المشهد الوحشي الذي مثل إساءة بالغة للثورة والثوار، ولكنني، شأن كثيرين كما أعتقد، أيقنت مرة أخرى أن عدالة السماء اقتصت لأولئك الذين أصدر عليهم القذافي أحكامه بالسجن والتعذيب والإعدام، إلَّا أنني ما كنت أود أبداً أن يتم القصاص على أيدي قوى الغرب وحلفائه في قطر، أو أن ينتهي بتسليم البلاد إلى الظلاميين الذين أغرقوا البلاد في الفوضى.

دمعة على الهواء

عندما أوشكت على السفر إلى لندن استضافتني منى الشاذلي في برنامجها "العاشرة مساءً" الذي كان يتصدر برامج المساء في حلقة كاملة، وفيه فجَّرتُ المفاجأة التي لم يكن أحد قد علم بها من قبل، أن قطاري ستكون محطته القادمة في "الليبية".

اندهشت منى بالطبع وأخذت تمطرني بسؤال تلو الآخر: لماذا "الليبية"؟ ويبدو أن إجاباتي لم تكن مقنعة تماماً حتى قلت لها في النهاية إن مثل هذا الوضع السيريالي الذي أنا فيه ليس له إلَّا حل سيريالي أيضاً، وعندما بدأ البرنامج في استقبال مكالمات المشاهدين التليفونية غمرني أصحابها بحبهم، ونبهتني إحدى المتصلات إلى اختيار مسكن في لندن بلا شرفات (إشارة إلى حوادث مقتل عدد من الشخصيات المصرية البارزة من شرفات مساكنهم في لندن).

بعد ذلك سألت منى: "ولماذا لا تعود إلى بيتك؛ إلى مصر؟"، وكانت تعرف الإجابة بالطبع، قلت: "النهاردة أنا عقد الليبية في جيبي، وفي الغد سوف أغادر إلى لندن، ومع ذلك أقول بوضوح: لو قدم لي عرض من التلفزيون المصري الآن فسوف أقبله على الفور وأنسى عقد الليبية، لكنني على يقين أن هذا لن يحدث، لا توجد في مصر قناة تريد برنامجي، أعمل إيه؟ أنشر إعلانا في الجرايد أقول فيه إني أبحث عن وظيفة؟".

صمتت منى كما لم تصمت في برنامجها من قبل، وسالت من عيونها دمعة غالبتها، تحدثت عنها الصحف كثيراً في ما بعد.

القذافي مدافعاً عن مبارك

لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي ألتقي فيها القذافي في عمل تلفزيوني؛ إذ كانت المرة الثانية في أبريل 2005 عندما كنت أقدم برنامجي "قلم رصاص" من دبي، وكان الحديث في مقره بطرابلس في "باب العزيزية".

عندما دخلت عليه مكتبه بادرني بالسؤال: "لماذا إصرارك على الهجوم على الرئيس مبارك؟"، قلت: "يا سيادة العقيد أنا لا أهاجم، أنا أنتقد"، قال: "ولكن ما اعتراضك بالذات على جمال مبارك؟"، أجبت: "ليس لي عليه أي اعتراض كشخص"، ثم أضفت: "لكن الجمهوريات لا تورث يا سيدي".

عَبَـرَ القذافي إجابتي وقال: "عندما آتي إلى القاهرة في المرة القادمة سأصطحبك معي إلى الرئيس مبارك"، فضلت أن أتفادى النقاش فأجبت بأنه ليس بيني وبين الرئيس خلاف يستدعي الوساطة، وانتهى الحديث عند هذا الحد.

back to top