رشدي أباظة... الرجل الأول: طريق الشيطان (9)
ما بين عامي 1946 و1950، تبدلت حال ليليان فيكتور ليفي كوهين، الفتاة الفقيرة المولودة في 13 ديسمبر 1919 في حي «الأزاريطة» في الإسكندرية، لأم مصرية مسيحية، وأب مسيحي فرنسي كان يعمل خبيراً في قناة السويس، غير أنها لجأت إلى زوج والدتها اليهودي المصري، فيكتور ليفي كوهين، ليكفل لها حياة كريمة، ويحميها من بلطجي في حي «الأزاريطة»، غير أنه لم يكتف بذلك، بل منحها ديانته اليهودية، ما جعل ليليان تعمل على تغيير حياتها تماماً، عندما التقت بالفنان أحمد سالم الذي اشتهر بغرامه وعشقه للجمال والجميلات، في مطلع عام 1946 في فندق وندسور في الإسكندرية:
- الأستاذ أحمد سالم... أنا مش مصدقة نفسي.* دا أنا اللي مش مصدق إن فيه جمال بالشكل دا.
- صحيح يا أستاذ عجبتك؟* دا انت تعجبي الملك... لا لا... بلاش دا أصله ما بيعتقش.- أستاذ أحمد. تسمح تديني «بون» علشان أشوف فيلمك «الماضي المجهول».* بس كدا. أوي أوي... لكن قوليلي... تحبي تمثلي في السينما.- إيه سينما... أنا... أنفع؟!* دي شغلتي. بس انت تقولي آه.- طبعا آه... يا ريت يا أستاذ.كانت ليليان تحلم بالثراء والشهرة والمجوهرات، تريد أن تكون مشهورة، وفعلاً عهد أحمد سالم بها إلى الفنان محمد توفيق، أن يتولاها ويعطيها دروساً في الإلقاء والأداء والحركة واللغة العربية. لكن محمد توفيق بعد أول درس فر هارباً من الوقوع في حبها، فتولى أحمد سالم بنفسه مسؤولية تدريبها، كذلك اشترى أفخر الثياب والمجوهرات، وإظهارها إعلامياً في الصحف والمجلات والحفلات الخاصة والعامة. وخلال ستة أشهر تحولت ليليان إلى «كاميليا» إلا أنه لم يحقق وعده لها بأن تقوم ببطولة أفلام سينمائية وكانت قد ذاعت شهرتها بالفعل، فانتهز الفنان يوسف وهبي انشغال أحمد سالم، وطلب منها العمل معه، فوافقت. واضطر سالم إلى التنازل عنها، سينمائياً وعاطفياً، مقابل ثلاثة آلاف جنيه، التي أنفقها على تعليمها وتهيئتها، ليقدم يوسف وهبي فيلم «القناع الأحمر» لتفتح لها السينما ذراعيها، لتصبح «كاميليا» خلال سنوات قليلة حديث المجتمع بأسره، وعلى رأسه ملك البلاد فاروق، عندما رآها للمرة الأولى في كازينو «حليمة بالاس» كانت كاميليا تشعر بجمالها، فألقى بشباكه حولها، وبدأت مطارداته لها حتى توطدت العلاقة بينهما لدرجة أنها كانت السبب المباشر في قراره بتطليق الملكة فريدة.كانت كاميليا مهيأة لانتشار الإشاعات حولها، من خلال ترددها على جلسات الملك الخاصة، فضلا عن حرصها على حضور حفلات صفوة المجتمع، وإقامة علاقات اجتماعية وسياسية مع جهات عدة في مصر، حتى اتهموها بأنها استغلت علاقتها بالملك فاروق، وتجسست على أخبار الجيش المصري لصالح إسرائيل، ما أدى إلى فشله في حرب 1948، وهي الإشاعة التي أطلقها اليهود بالتعاون مع الإنكليز، بعدما تأكد عدم وفائها لهم أو تقديمها خدمات طلبوها منها. وزاد الأمر تعقيداً عندما كشفت أمام الجميع، أن ديانتها وديانة والديها «المسيحية» وليست «اليهودية»، وحاولت إثبات ذلك عبر أوراق رسمية.هذه المعلومات كافة وأكثر، عرفها رشدي أباظة عن كاميليا، بعد أسبوع فقط من العمل معاً في فيلم «امرأة من نار»، غير أن هذا الأسبوع لم يمر، ولم يفارقها فيه رشدي لحظة، إلا وكانت كاميليا عاشقة نفسها، قد وقعت في عشق الفتى الأباظي، ذلك العشق الذي بدأ بإعجاب من رشدي، ثم حب متبادل بينهما، وسرعان ما تحول إلى تحد، لخطفها من جلالة الملك، انتقاماً منه، بعد أن فرَّق بينه وبين «آني بريه»، غير أن الملك لم يكن يستسلم بسهولة لضياع «صيد ثمين» مثل كاميليا.زار رشدي شقة كاميليا في عمارة «الإيموبيليا» المكونة من طابقين، ولاحظ أنها تدخل من باب الشقة السفلي، وكذلك رشدي، الذي أصبح له مفتاحه الخاص، وعندما طلب مفتاح باب الطابق العلوي، صمتت كاميليا، ولم تجبه، فعاود رشدي طلب المفتاح، فكان رد كاميليا البكاء، وهو ما أثار الشكوك في قلب رشدي أباظة:- مش فاهم... إيه معناه الكلام دا؟!* صدقني مافيش حاجة.- أصدقك ولا أصدق دموعك؟ فهميني معناها إيه الدموع دي؟* طب لو اتكلمت بصراحة هاتقدر كلامي... مش هاتفهم غلط؟- كاميليا. انت كدا بتولعي في جسمي. اتكلمي على طول من غير لف ودوران.* ما هو مش ممكن اتكلم وانت بالحالة دي. اوعدني أنك تتفهم الأمور وماتفهمنيش غلط.- أوعدك... اتكلمي.* شوف أنا عارفة كويس إنك بتغير من فاروق ومش بس فاروق... وكمان أحمد سالم، ويوسف وهبي، زي ما كل الناس بتتكلم... لكني أقسم لك إن مافيش أي علاقة بأي واحد منهم دلوقت. يمكن كانوا في وقت من الأوقات كان لكل واحد فيهم دور في حياتي. لكن مش أكتر من مشروع علاقة.- مشروع علاقة لحد فين؟* مش للدرجة اللي في دماغك. كلها كانت مشاريع حب من ناحيتهم. ماتمتش من ناحيتي.- طب إيه حكاية مفتاح الدور اللي فوق دا؟* هو دا المشكلة... أنا عايزة أقولك إني ماكنتش أقدر آخد الفيلا دي في الإيموبيليا وأفرشها بالطريقة دي. لكن كان في حد بيحاول يقرب مني. وأرجوك ماتحاولش تسأل عن اسمه لأني مش هاقدر أقول اسمه. علشان دي رغبته لأن عنده بيت وزوجة وأولاد، وأنا أقسمت على كدا. ودا اللي جاب لي الفيلا دي وفرشها واشترط أنه يبقى معاه مفتاح الدور اللي فوق. وماحدش تاني يدخل منه غيره. بس أقسم لك إن العلاقة ماتعدتش الصداقة. أو تقدر تقول إنه حب أفلاطوني من ناحيته... وإنه زي ما بيقول بيكون مرتاح أوي لما بيجي يقعد معايا شوية هنا. لكن بكل أدب واحترام... وعلشان تبقى مطمن هو عنده خمسة وستين سنة... يعني أكبر من بابا. - وإيه المطلوب مني؟ أبقى آجي اقعد معاه أنا كمان أسليه معاكي؟!* لا يا حبيبي... أنا مش قصدي اجرحك. بس أنا حبيت أقولك على كل اللي كان في حياتي. لكن أوعدك أني هانهي علاقتي بأي شيء من الماضي لأن مافيش غيرك في حياتي ومش هايكون. أنا كان ممكن أخبي عليك وعمرك ما كنت هاتعرف. بس أنا أخدت عهد على نفسي ما أخبيش عنك حاجة. حتى لو كانت قبل ما أعرفك. صدّق رشدي كلام كاميليا، لكنه شعر بشيء ما يؤلمه. فهو أناني في الحب... وقد أكدت له أنه الأول في قلبها... وسيكون الأخير، الأمر الذي بلغ الملك فاروق فغضب وثار، بل وللمرة الأولى توعَّد رشدي أباظة علناً.ذهب رشدي وكاميليا يتناولان العشاء في «فندق مينا هاوس» في منطقة الأهرامات، وكان في نيتهما إكمال السهرة في الفندق، غير أن رشدي ما إن علم بوصول الملك حتى سارع وكاميليا بمغادرة الفندق، لكنه قبل أن يخرج من مطعم الفندق، فوجئ بفوهة مسدس في ظهره، استدار ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام ملك مصر والسودان، وقد صوب مسدسه تجاهه: أباظة... ابعد عن كاميليا.لم ينطق رشدي كلمة، بل ظل واقفاً مكانه في انتظار أن يتحرك الملك، الذي قال جملته ثم أعاد المسدس مكانه، وأطلق ضحكة عالية هزت أرجاء المكان.لم يخف رشدي، ولم يتأثر بما قاله الملك، بل زاده إصراراً على أن يتمسك بكاميليا، أولاً لأنه يحبها فعلاً. أما السبب الثاني، غير المعلن، فهو تحدي الملك، وهو ما استشعرته كاميليا في كلام رشدي، وحرصه على أن يعرف كل التفاصيل عن علاقتها بالملك، ما جعلها تشكك في حبه لها، وأن علاقته بها لم تخرج عن كونها مجرد تحدٍ للملك:* عايزة أسألك سؤال يا رشدي... بس تجاوبني بصراحة.- طبعا يا حبيبتي اسألي.* انت بتحبني فعلا... ولا عايز بس تثبت لنفسك أنك تقدر تقف قدام الملك وتنتصر عليه؟- كاميليا. أنا بحبك حب ممكن يخلي كل الناس اللي على الأرض يحبوا بعض.* طب ليه مُصّر دايماً تحط الملك بينا.- مش أنا... هو اللي بيحط مناخيره في كل حاجة. مُصّر يخطف كل حاجة حلوة في حياتنا. * بس هو ماقدرش يخطفني منك. انت اللي...- قصدك تقولي إن أنا اللي خطفتك منه. لا... انت اللي قدرتي تعرف القلب اللي حبك بجد. من اللي عايز ينهش لحمك ويرميك زي غيرك. بدليل أنه طلق الست المحترمة فريدة اللي كل الشعب بيحبها.* إحنا هانفضل نتكلم عنه طول القعدة.- لا خلاص. قوليلي انت هاتخلصي فيلمك مع إسماعيل ياسين أمتى؟* أنا خلصت امبارح فيلم «قمر 14» وفاضلي مع إسماعيل ياسين في فيلم «المليونير» أسبوع.- أعملي حسابك. احنا لازم نتجوز في أقرب وقت. لأن خلاص الصيف دخل علينا احنا في مايو... يعني كلها شهر والجو هايبقى نار.* انت ناوي نقضي شهر العسل في مصر ولا الإسكندرية؟- لا شهر العسل هانقضيه في إيطاليا... ومنها على فرنسا... هانلف أوروبا كلها.بدأت كاميليا تصارع الزمن لإنهاء كل ارتباطاتها الفنية، للتفرغ بعدها للزواج من رشدي. غير أن كاميليا لم تكن مرتبطة فقط بالأعمال الفنية، فقد استغل بعض أجهزة المخابرات علاقاتها الواسعة والمتعددة، وتحديداً علاقتها بالملك فاروق، ملك مصر والسودان، للحصول على معلومات تخص السيادة المصرية. غير أن كاميليا راوغت، ورفضت تقديم أي معلومات، بل الأخطر، وعبر العلاقات نفسها، استطاعت التوصل إلى معلومات خطيرة تخص بعض العلماء المصريين، قدمتها الممثلة اليهودية راقية إبراهيم التي اكتشفت كاميليا أنها تعمل لصالح «العصابات الصهيونية». غير أن هذه المعلومات كانت تنقصها المستندات، وأهمها صور توضح لقاءات الممثلة راقية إبراهيم مع ضباط إسرائيليين وبريطانيين، أثناء لقاءاتهم في باريس، وهو ما بلغ الوكالة اليهودية، فدبروا مع المخابرات البريطانية التخلص منها.في الوقت نفسه، حاولت الشرطة السياسية المصرية، أن تلصق بكاميليا تهمة تورطها في صفقة الأسلحة الفاسدة، باتفاقها مع الوكالة اليهودية والمخابرات البريطانية، وذلك بعدما فتح الكاتب الصحافي إحسان عبد القدوس الملف على صفحات مجلة «روزاليوسف»، وكان الملك مهيأ لتصديق هذه التهمة، بعدما غضب عليها بسبب علاقتها برشدي أباظة. غير أن بعض المحيطين به، نصحوه بألا يوجه اتهاماً مباشراً إليها، كي لا ينقلب السحر على الساحر، فتوجه له المعارضة اتهاماً مباشراً بالفساد، على اعتبار أن كاميليا كانت آنذاك الصديقة المقربة، بل والعشيقة التي سمح لها بأن تطلع على ما لا يجب أن تطلع عليه.أسقط في يد الملك بعدما علم بأمر كاميليا، فتكتم الخبر حتى يتدبر الأمر، خشية أن تفضحه صحف المعارضة، وتلصق به تهمة الخيانة واشتراكه مع «صديقته» كاميليا بالتجسس على مصر لصالح الصهاينة.لم يكن رشدي يترك كاميليا لحظة، سواء أثناء عملها في الأفلام التي تشارك في بطولتها، أو بعيداً عن الكاميرات، ليس لإدراكه حجم المؤامرة التي تحاك ضدها، بل لأنه أحبها بإخلاص، وأصبح يعد الأيام في انتظار انتهاء كاميليا من ارتباطاتها الفنية لإتمام الزواج، وهو ما حدداه في الأول من أكتوبر 1950.قدمت كاميليا عام 1950، نشاطاً فنياً ملحوظاً، فقامت ببطولة كثير من الأفلام من بينها: «العقل زينة، المليونير، آخر كدبة، ولدي، قمر 14}، ثم «بابا عريس» آخر فيلم قدمته مع المخرج حسين فوزي الذي أدت بطولته زوجته نعيمة عاكف، وهو أول فيلم مصري يقدم بالألوان الطبيعية، فضلاً عن الفيلم الأميركي «الطريق إلى القاهرة»، حيث كانت المصرية الوحيدة المشاركة في الفيلم، واعتبره بعض النقاد والصحافيين، بداية جيدة لوضع قدميها على طريق العالمية، وهو ما فكرت فيه كاميليا فعلاً. غير أن الفيلم ترك علامة استفهام كبيرة، وما إن انتهت كاميليا من تصوير الأفلام المرتبطة بها، حتى قررت السفر في رحلة علاج إلى سويسرا:- مش ممكن أسيبك لوحدك... لازم آجي معاكِ.* حبيبي أنا مش هاتأخر. هي كلها أسبوعين... وأنا مرتبة كل حاجة هناك. مجرد ما أعمل الأشعة والتحاليل اللازمة وأخد العلاج. هارجع على طول... وكمان هاجيب معايا فستان الفرح.- طب أنا عندي فكرة. نكتب الكتاب ونسافر... وأهو منه تتعالجي ومنه نقضي شهر العسل في سويسرا... ونطلع منها على باريس ونختم بإيطاليا.* لا يا حبيبي... انت عاوز تضحك عليا. أنا هاقضي شهر العسل ولا هاتعالج.- ماهو مش ممكن أسيبك.* حبيبي... الأستاذ يوسف وهبي بعتلك علشان تشتغل معاه في فيلمه الجديد. وانت عارف يوسف وهبي في الشغل... ماعندوش تفاهم.- لسه بدري ع الفيلم... يوسف وهبي هايصور أول الشتا. يعني مش قبل نوفمبرأو ديسمبر.* صدقني هم أسبوعين مش هاأتأخر.كانت آلام المعدة المتكررة تنغص على كاميليا حياتها، فأرادت أن تضع لها حداً، فقررت السفر إلى سويسرا لتعرض نفسها على الأطباء هناك، وطلبت حجز مكان لها على طائرة شركة الطيران الأميركية «تي دبليو إيه»، رحلة «نجمة ميرلاند رقم 903»، المتجهة إلى سويسرا، لتلحق بموعد حجز المستشفى السويسري، غير أنها لم تجد مكاناً لها على الطائرة، لكن موظف الشركة وعدها بأن يبذل قصارى جهده خاصة بعدما عرف بمرضها.في المساء اتصل بها الموظف، وأخبرها عن تنازل صحافي مصري يدعى «أنيس منصور» عن مكانه وتذكرته بشكل مفاجئ لأسباب خاصة به، وفعلاً فرحت كاميليا وعقدت العزم على السفر، حيث كان رشدي أباظة في وداعها في المطار، بعدما تواعدا على اللقاء بعد أسبوعين لإتمام الزواج.أقلعت الطائرة صباح يوم 31 أغسطس عام 1950، من مطار القاهرة، ولم يستمر طيرانها في سماء مصر أكثر من عشرين دقيقة، لتسقط الطائرة منفجرة فوق دلتا وادي النيل، في مدينة «الدلنجات» في محافظة البحيرة. ولم يُعثر إلا على «فردة حذائها الساتان الأخضر» بلون الفستان الذي ارتدته كاميليا، التي رحلت ولم يتجاوز عمرها الواحد والثلاثين. وتنقذ الأقدار رشدي أباظة من المصير نفسه، فقد كان مقدراً له أن يسافر معها، وهو ما ألح عليه رشدي، غير أن كاميليا أصرت على ألا يسافر معها.قرر اللوبي الصهيوني قتل كاميليا بتفجير أول طائرة في تاريخ الطيران المدني، من خلال تلغيم طائرة شركة الطيران الأميركية بقنابل موقوتة، لمنعها من اطلاع السلطات المصرية على تورط الممثلة اليهودية راقية إبراهيم، في الخطة الرامية إلى التخلص من عالمة الذرة المصرية سميرة موسى.كانت الصدمة كالصاعقة على رشدي، فبمجرد أن علم بالخبر سقط مغشياً عليه، ونُقل فوراً إلى المستشفى، مصاباً بحالة انهيار عصبي شديد.البقية في الحلقة المقبلةفي المستشفىأمضى رشدي أسبوعين في المستشفى، لم يستيقظ خلالهما إلا ساعات، حيث داوم الأطباء على إعطائه الأدوية المنومة والمهدئة، فكلما كان يفيق من نومه كان يُصاب بنوبة من الهياج العصبي، حزناً على رحيل كاميليا. وخرج بعد أسبوعين، وظل عازفاً عن كل شيء. عاد إلى منزل والدته في ميدان «الأوبرا» وكان طبيعياً أن تخفي الأم سعادتها الغامرة لأكثر من سبب، ربما أهمها نجاة ابنها من كارثة محققة كانت يمكن أن تصيبه إذا قدر له السفر مع كاميليا. والسبب الثاني أنها كانت تحبه فوق حب كل أم لابنها، إلى درجة أنها يمكن أن تغار عليه من أي امرأة أخرى، فكانت سعادتها مزدوجة، بنجاة ابنها من حادث الطائرة، وفي الوقت نفسه بانتهاء علاقته بكاميليا. غير أنها كان لا بد أن تواسيه في محنته:* رشدي. انت أقوى من أنك تستسلم للحالة دي.- مش قادر... مش قادر أنساها يا ماما.* مين قال؟ لازم تنسى... وهاتنسى وهاتعرف غيرها وهاتتجوز... انت لسه شاب صغير وجميل وجذاب... والأهم من دا كله انت فنان.- فنان مع إيقاف التنفيذ. كل ما أطلع خطوة لقدام... ارجع عشرة لورا.* صدقني. انت هاتبقى فنان كبير. مش بس كدا... انت هاتبقى النجم الأول في السينما المصرية. بس هي مسألة وقت.كان رشدي يعرف أن مبعث هذه الكلمات هو قلب الأم وحبها لابنها، فلم تخرجه هذه الكلمات من الحالة التي أدخل نفسه فيها اختيارياً، لدرجة أنه ظل أربعة أيام متواصلة داخل حجرته لا يغادرها، ولا يأكل، بل يدخن فقط. فانقبض قلب الأم خوفاً على ابنها، فبادرت بسرعة بالاتصال بصديقه سهيل، وطلبت منه الحضور ليخرج رشدي من هذه الحالة، غير أنه فشل أيضاً، ولم يخرجه من هذه الحالة سوى يوسف وهبي.