منذ الإطاحة بحكم مرسي، في شهر يوليو الماضي، قام تنظيم "الإخوان" بإعلان إنشاء منظمة أسماها "التحالف الوطني لدعم الشرعية"، لتكون عنواناً لكل الأنشطة التي سيقوم بها مع حلفائه القليلين في الداخل وداعميه الكثيرين في الخارج، منذ تلك الإطاحة حتى يومنا هذا، وهي الأنشطة التي تستهدف تقويض أركان الدولة، وجرها إلى حالة من الفوضى والعنف.

Ad

سيكون تنظيم "الإخوان" مضطراً إلى حل هذا "التحالف"، أو على الأقل تغيير اسمه، لأن شرعية راسخة جديدة نشأت في مصر في الأيام القليلة الماضية، ولن يكون بوسع أكثر الكارهين تبجحا ووقاحة أن يشكك فيها أو يدحضها.

منذ 3 يوليو الفائت، كانت الشرعية التي تحكم مصر، وتزيح "الإخوان" في آن، مستمدة من الزخم الثوري الذي تجسد في خروج ملايين المصريين إلى الشوارع في معظم محافظات البلاد، للمطالبة بإطاحة الحكم "الإخواني"، بعدما أثبت فشلاً وعجزاً وفساداً، ومثّل تهديداً للمصالح الوطنية ولروح الدولة المصرية العريقة في آن.

لكن ما حدث في يومي 14 و15 يناير الجاري، كان تكريساً لتلك الشرعية، عبر تحويلها إلى شرعية دستورية متكاملة الأركان، مستندة إلى دستور جديد محترم ومتسق مع روح الدولة المصرية وهويتها الحضارية، ومدعمة بنتائج قوية لعملية استفتاء مرت بسلام، وحظيت بمشاركة واسعة، وتكللت بنتيجة إيجابية فاقت كل التوقعات.

لم يتم الإعلان عن النتائج النهائية الخاصة بالاستفتاء على التعديلات الدستورية، لكن المؤشرات الأولية، والمتابعات الإعلامية، وتقارير المنظمات الحقوقية كلها تشير إلى عملية استفتاء شفافة ونزيهة حظيت بمشاركة واسعة وبنسب موافقة تفوق التوقعات.

بوصفي عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان، فقد كان لزاماً عليّ أنا و25 من زملائي، وعشرات من الباحثين والمراقبين المُدربين، أن نتفقد اللجان الانتخابية في محافظات الجمهورية المختلفة، وأن نسجل كل مشاهداتنا في استمارة أُعدت خصيصاً لذلك، وأن نجري مقابلات مع مسؤولي اللجان والمشاركين وعناصر التأمين، وأن نقوم بالإبلاغ الفوري عن أي مظهر من مظاهر الانتهاك أو مخالفة لقانون الانتخاب.

سيمكنني أن أؤكد أن العملية كانت نظيفة ونزيهة ومنظمة، وأن المشاركة تراوحت ما بين الكثافة والإقبال الواضحين في اليوم الأول وبين المحدودية النسبية في اليوم الثاني، وأن التأمين كان أكثر من جيد، والإشراف القضائي كان فعالاً، رغم وقوع عدد من المخالفات والانتهاكات التي لا تؤثر في سلامة العملية أو تنال من نزاهتها.

ستتحدث جهات كثيرة ومنظمات حقوقية عن مخالفات إدارية وانتهاكات قانونية وقعت، وهو أمر لا يمكن أبداً نفيه أو استبعاد حصوله في ذلك الاستفتاء أو غيره من الاستحقاقات الانتخابية، لا في مصر ولا في غيرها من البلدان، لكن السؤال الأهم دائماً في هذا الصدد، يتعلق بما إذا كانت تلك المخالفات حرفت إرادة الناخبين أو نجحت في التأثير في النتائج؟

علينا أولاً أن نقرأ السياق الذي تم هذا الاستفتاء خلاله حتى ندرك حجم القيود والتحديات التي ألقيت على عاتق منظميه والمشاركين فيه. دعت جماعة "الإخوان" التي تم إعلانها "جماعة إرهابية" من مجلس الوزراء المصري، إلى مقاطعة الاستفتاء، وتوعدت بإفشاله، وانضمت إليها في هذا الطرح جماعات إرهابية أخرى وتكفيريون في سيناء، وراحوا جميعاً يطلقون التهديدات باستخدام العنف لإجبار المواطنين على عدم المشاركة.

في صبيحة يوم الاستفتاء استيقظ المواطنون على نبأ تفجير قنبلة أمام مقر إحدى المحاكم في محافظة الجيزة، وسط تهديدات وإشاعات كثيفة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الأجواء الشعبية والمنتديات، عن وقوع هجمات أو تفجيرات في مقار اللجان المختلفة.

وفي غضون ذلك، كانت جماعة "الإخوان"، وحلفاؤها في اليمين الديني المتطرف، تشيع في المناطق الريفية والمهمشة والأقل نمواً أن التعديلات الدستورية "تنزع الشريعة الإسلامية من الدستور وتحول مصر إلى بلد للكفار والنصارى، وتبيح الشذوذ والممارسات الفاجرة".

وعلى الموجة نفسها، كان الداعية القطري يوسف القرضاوي يخطب في أحد مساجد الدوحة مخاطباً المصريين ويحرضهم على مقاطعة الاستفتاء لأنه "ضد الشريعة الإسلامية".

على الصعيد الأمني، كانت القوات المسلحة والشرطة تحاول أن تواجه تهديدات كثيفة ومتعاظمة، وتسعى إلى تحقيق أي تقدم في مجال مواجهة العمليات الإرهابية، خصوصاً بعد تفجير مديرية أمن الدقهلية (وسط الدلتا) قبل نحو شهر، وبعد زيادة حدة أعمال العنف التي يمارسها طلاب جماعة "الإخوان" في عدد من الجامعات المصرية، وهو عنف مجاني وعشوائي لا يستهدف سوى إيقاع قتلى بين صفوف الطلاب أو قوات الأمن، إضافة إلى تعطيل الدراسة وتحطيم المباني والمنشآت.

على الصعيد الإعلامي واصلت شبكات "الجزيرة" المختلفة بث سلاسل من الأكاذيب، وتقديم تغطيات تحريضية منحازة، في محاولة لشل قدرة قوات الأمن على العمل الفعال في مواجهة الهجمات الإرهابية وأعمال العنف التي يمارسها متظاهرون تابعون لـ"الإخوان" من جهة، وتحريض المواطنين على عدم الذهاب إلى التصويت على الاستفتاء بشتى الوسائل من جهة أخرى.

كان هذا هو السياق الذي جرت فيه عملية التصويت على الاستفتاء، وهو سياق لا يشجع على التفاؤل بالطبع، ويضع علامات استفهام كثيرة على النتائج المتوقعة للتصويت.

لكن المذهل حقاً هو ما جرى اعتباراً من لحظة فتح باب لجان التصويت، التي يبلغ عددها أكثر من 30 ألف لجنة، في صباح يوم 14 يناير.

لقد انتظم المصريون، خصوصاً السيدات وكبار السن، في طوابير طويلة انتظاراً للإدلاء بأصواتهم، قبل أن يخرج بعضهم من اللجان للانخراط في احتفالات وممارسة الغناء والرقص على إيقاع الأغاني الوطنية.

هيمنت حالة من الجيشان العاطفي على عملية التصويت، ومنحتها زخماً كبيراً، لقد سألت العشرات ممن حرصوا على إبراز أصابعهم الملونة بلون الحبر الفوسفوري للتدليل على "وطنيتهم" كما يعتقدون، عن سبب تصويتهم بـ"نعم"، لكن قليلين جداً منهم من أجابوا بإجابات تتعلق بالدستور ومواده مباشرة.

معظم من سألتهم عن سبب الحضور والموافقة على الدستور أجابوني بإجابات من نوع: "عشان مصر"، و"بنحب بلدنا"، و"عايزين نرجع بلدنا"، و"حتى نسقط الإرهاب".

لم يكن التصويت على استفتاء 14 و15 يناير 2014 لدى معظم المشاركين محاولة لإقرار الدستور فقط، لكنه كان تصويتاً على سقوط دولة "الإخوان"، ودحر "الإرهاب"، وإقرار "خريطة طريق المستقبل"، وتأسيساً لشرعية جديدة لدولة مدنية عصرية، وإصراراً على تأكيد الهوية الحضارية للدولة المصرية وشعبها، وخروجاً من نفق معتم دخلته مصر طيلة عام تحت حكم تنظيم مأفون.

سيكون من الصعب على تنظيم "الإخوان" وأعوانه وداعميه التحدث عن "انقلاب عسكري"، و"سرقة إرادة الجماهير"، و"دستور الشرعية الذي تم التصويت عليه في 2012"، بعدما فاقت مؤشرات التصويت على التعديلات الدستورية الأخيرة نظيرتيها في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس 2011، والاستفتاء على دستور "الإخوان"، الذي أقر في غيبة كل التيارات المدنية، في 2012.

سيحاول تنظيم "الإخوان" إفساد أفراح المصريين بالاستفتاء على الدستور الجديد، وسيسعى إلى إعطاء الانطباع بعدم الاستقرار، عبر تنظيم عمليات إرهابية، وشن هجمات على قوات الأمن خلال التظاهرات العشوائية ذات الطابع العنيف، ومحاولة استدراجها إلى إيقاع ضحايا جدد للمتاجرة بدمائهم.

لكن كل تلك المحاولات لن تجدي بالطبع، ولن تثني الدولة عن المضي قدماً في تفعيل بقية استحقاقات خريطة الطريق، وسيكون لمصر رئيس وبرلمان منتخبان انتخاباً نزيهاً شفافاً في غضون 180 يوماً من إقرار التعديلات الدستورية، وستكون المشاركة في الاستحقاقات المقبلة على ذات القدر من الفعالية والنجاعة والجيشان العاطفي وهيمنة الشعور بالالتزام الوطني.

ستكون معاندة الإرادة الشعبية التي أظهرها الجمهور في الاستفتاء الأخير عملاً فاشلاً وغير مدروس، وسيكون اللحاق بالصف الوطني، والانخراط في الاستحقاقات المقبلة عملاً حكيماً ونتائجه مضمونة.

لقد خرجت مصر من النفق الطويل المعتم، ورأت النور، وستمضي إلى الأمام، ورغم أنها ستواجه صعاباً وتحديات خطيرة بكل تأكيد، فإنها على الأقل امتلكت زمام المبادرة، وباتت على السكة الصحيحة.

* كاتب مصري