نموذج جديد لأوروبا جديدة

نشر في 23-01-2014
آخر تحديث 23-01-2014 | 00:01
في أغلب بلدان أوروبا الوسطى والشرقية تمت خصخصة صناعات «الشبكات» مثل شركات الكهرباء والسكك الحديدية جزئياً، وفتح هذه الصناعات بشكل أكثر اكتمالاً للمنافسة وحوافز السوق من شأنه أن يساعد في زيادة إنتاجية هذه الصناعات.
 بروجيكت سنديكيت قبل خمسة أعوام كانت أوروبا الوسطى والشرقية موطناً لواحدة من أكثر قصص النمو إبهاراً في العالم، فكان نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي قريباً من 5%، بعد الصين والهند فقط، وكان الاستثمار المباشر الأجنبي يتدفق إلى بلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك والمجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا بمعدل يتجاوز 40 مليار دولار أميركي سنوياً. وكانت واحدة من كل ست سيارات تباع في أوروبا مستوردة من مصانع في المنطقة، وكانت إنتاجية الفرد ونصيبه من الناتج المحلي الإجمالي في ارتفاع سريع، الأمر الذي أدى إلى تضييق الفجوة مع أوروبا الغربية.

لكن المنطقة كانت تناضل من أجل استعادة الزخم منذ الأزمة المالية العالمية وما تلاها من ركود، فقد انخفضت معدلات النمو الاقتصادي إلى أقل من ثلث المستويات التي بلغتها قبل الأزمة. ولم يتعاف الاستثمار المباشر الأجنبي الذي هبط بنسبة 75% في الفترة من عام 2008 إلى عام 2009 إلا جزئياً.

والواقع أن المنطقة تبدو وكأنها اختفت من شاشات رادار الشركات العالمية والمستثمرين، ورغم هذا فإن بحثنا الجديد يشير إلى أن السمات التي جعلت المنطقة جذابة لا تزال قائمة ولم تتأثر.

ولا تزال معدلات النمو لتدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي منخفضة، لكن المنطقة في الإجمال نجحت في الصمود في وجه الأزمة والخروج منها في حالة طيبة نسبياً، ففي أغلب البلدان لم يتجاوز الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي 60% منذ عام 2004- وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي الأصلية الخمسة عشر قبل ذلك العام، وتظل الحقيقة أن هذه البلدان تتباهى بشكل جماعي بعمالة عالية التعليم ومستويات أجور أدنى بنسبة 75% في المتوسط من اقتصادات الاتحاد الأوروبي الأصلية الخمسة عشر.

ومن ناحية أخرى، تقاسمت المنطقة بعض التجاوزات نفسها- خصوصاً في سوق العقارات- التي ساعدت في تفجير الأزمة، ففي رومانيا ارتفعت أسعار العقارات بنسبة 23% سنوياً في الفترة بين 2004 و2007، وعلى الرغم من التحسن الكبير في بيئة العمل التجاري في أنحاء المنطقة المختلفة، فإن ترتيب هذه الاقتصادات يأتي خلف بلدان الاتحاد الأوروبي الأصلية الخمسة عشر في مؤشرات الفساد (ولو أن أداءها في هذا المجال أفضل من اقتصادات ناشئة أخرى، بما في ذلك الصين والهند والبرازيل وروسيا).

والأمر الأكثر أهمية أن الأزمة كشفت عن نقاط ضعف كبيرة في النموذج الاقتصادي المعمول به في المنطقة: الإفراط في الاعتماد على الصادرات إلى أوروبا الغربية فضلاً عن مستوى مرتفع من الاستهلاك مقارنة بمناطق نامية أخرى، وهو نمط استهلاكي تغذى على الاقتراض وفرط الاعتماد على الاستثمار المباشر الأجنبي في البحث عن الاستثمارات الرأسمالية. لكن بوسع أوروبا الوسطى والشرقية أن تعمل على صياغة نموذج جديد نعتقد أنه كفيل بتمكين عودة معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 4% و5%، ويتألف هذا النموذج من ثلاثة عناصر رئيسة: توسيع الصادرات وتطويرها؛ وزيادة الإنتاجية في القطاعات التي تعاني ضَعف الإنتاجية؛ وإحياء الاستثمار المباشر الأجنبي مع الاهتمام بتطوير السبل الكفيلة بتمكين اقتصادات المنطقة من تمويل المزيد من النمو من خلال زيادة المدخرات المحلية.

والمنطقة لديها فرصة كبيرة لرفع قيمة صادراتها من السلع والخدمات. على سبيل المثال، تتمتع المنطقة بوضع جيد يسمح لها بالتحول إلى مركز إقليمي لمعالجة المواد الغذائية لأوروبا الكبرى وخارج حدود أوروبا، فمعدلات الأجور في المنطقة لا تزال منخفضة إلى الحد الذي يجعل تكلفة السجق المصنع في بولندا والمباع في برلين أقل بنحو 40% مقارنة بالسجق المصنوع في هامبورغ.

وتُعَد المنطقة بالفعل مصدرة صافية للسلع التي تحتاج إلى "معرفة كثيفة" مثل السيارات ومنتجات صناعة الفضاء، بل قد تنتقل المنطقة إلى مجالات أكثر تطوراً مع استثمارات إضافية في التعليم والمزيد من تنمية وتطوير التكتلات الصناعية مثل دولينا لوتنيزا (وادي الطيران) في جنوب شرق بولندا.

وتكمن إحدى الفرص الواعدة في الخدمات التي تتطلب معرفة كثيفة، فبقيادة بولندا، أصبحت المنطقة موقعاً متزايد الأهمية لنقل التصنيع والعمل إلى الخارج، والواقع أن الصناعات المنقولة إلى الخارج تنمو أسرع بمرتين مقارنة بالهند.

لكن نطاق النمو قد يكون أعظم، وذلك في ضوء اتجاهين متميزين في آسيا: ارتفاع تكاليف الأجور وزيادة القلق بين عملاء نقل التصنيع إلى الخارج من الغربيين بشأن القضايا الثقافية واللغوية الثابتة.

والواقع أن أوروبا الوسطى والشرقية في موضع جيد يسمح لها بالاستفادة من هذين الاتجاهين، نظراً للمهارات اللغوية القوية، والألفة الثقافية مع العملاء من أوروبا الغربية وأميركا. فضلاً عن ذلك فإن المنطقة أقرب زمنياً إلى العملاء من أوروبا الغربية والولايات المتحدة مقارنة بالشركات في آسيا.

وهناك أيضاً العديد من القطاعات الجاهزة لتحسين الإنتاجية، ففي قطاع البناء، وهو القطاع غير الرسمي إلى حد كبير، كانت الإنتاجية أدنى من مستوياتها في بلدان الاتحاد الأوروبي الأصلية الخمسة عشر، والإنتاجية منخفضة أيضاً في مجال الزراعة، نظراً لغَلَبة المزارع الصغيرة غير المميكنة بشكل كامل، والواقع أن فتح القطاع الزراعي أمام الاستثمار الأجنبي من شأنه أن يساعد على زيادة أحجام المزارع المتوسطة وتقديم المزيد من الطرق الحديثة.

في أغلب بلدان المنطقة، تمت خصخصة صناعات "الشبكات" مثل شركات الكهرباء والسكك الحديدية جزئياً، وفتح هذه الصناعات بشكل أكثر اكتمالاً للمنافسة وحوافز السوق من شأنه أن يساعد في زيادة الإنتاجية في هذه الصناعات.

ولتقليل الاعتماد على الاقتراض والاستهلاك وتدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي المتقلبة، فلابد من زيادة معدلات الادخار المحلية في المنطقة بمجرد ارتفاع الطلب. ومن الأمور المساعدة أيضاً إصلاح نظام المعاشات التقاعدية ومواصلة تنمية الأسواق المالية وتطويرها.

إن تنفيذ مكونات نموذج النمو هذا في أوروبا الوسطى والشرقية سوف يتطلب المزيد من الإصلاحات الرامية إلى تيسير إقامة أعمال تجارية وتعزيز سبل حماية المستثمرين. ويتعين على اقتصادات المنطقة أيضاً أن تستثمر بكثافة أكبر في البنية الأساسية وأن تعالج التأثيرات المترتبة على الشيخوخة السكانية، والتي قد تقتطع 0.7% من معدلات النمو السنوية في العقود المقبلة، ومن المؤكد أن حمل المزيد من النساء على الالتحاق بقوة العمل يشكل وسيلة لزيادة مشاركة هذه القوة إلى مستويات مماثلة في بلدان الاتحاد الأوروبي الأصلية الخمسة عشر، وتجنب ارتفاع معدلات الإعالة إلى عنان السماء.

سوف تكون أوروبا الوسطى والشرقية حتماً في دائرة الضوء العالمية هذا العام، والواقع أن حلول الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لسقوط الستار الحديدي والذكرى السنوية العاشرة لانضمام جمهورية التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا إلى الاتحاد الأوروبي يشكل فرصة للمنطقة لاستعراض مدى تطورها في ربع القرن الأخير، ولكن تحقيق الإمكانات الكبرى التي تتمتع بها المنطقة في تعظيم نجاحها سوف يتطلب نهجاً جديداً في التعامل مع النمو.

مارتن بايلي - Martin N Baily & بال إيريك شاتل - Pål Erik Sjåtil

* بيلي، كان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ويشغل حالياً منصب رئيس تنمية السياسة الاقتصادية في "معهد بروكينغز". وسايتل، الشريك الإداري في "مؤسسة ماكينزي" لأوروبا الشرقية، ورابطة الدول المستقلة، والشرق الأوسط، وإفريقيا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top