الرجل الذي زعزع الشرق الأوسط
يمكن التحدث دوماً عن تونس لتذكّر تجربة ناجحة، فوسط تصاعد الدخان من ركام الشرق الأوسط تبرز قصة نجاح مشجّعة، لكن من سوء حظ خطابات أوباما أنّ الرئيس شارك في ترسيخ مسار تونس نحو الديمقراطية بقدر ما شارك في تصنيفات كأس العالم! في الجوانب التي تركت فيها سياسة الإدارة الأميركية أثراً واضحاً، ينحصر ما تحقق بمظاهر الفشل والخطورة.كان الشرق الأوسط الذي ورثه أوباما في عام 2009 بحالة سلام في معظمه، فقد نجحت خطة زيادة القوات الأميركية في العراق بهزم الجماعات المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، وكانت العلاقات الأميركية بالحلفاء التقليديين في الخليج والأردن وإسرائيل ومصر ممتازة، كذلك، تم احتواء إيران وبقيت قوات الحرس الثوري في ديارها، أما اليوم، فقد توسّعت رقعة الإرهاب في سورية والعراق، وأصبح الأردن معرضاً للخطر، وبلغت الكارثة الإنسانية ذروتها، وتشهد الجماعات الإرهابية نمواً متسارعاً، وتبدو العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة متوترة.
ما الذي حصل؟ لنبدأ بعامل الغطرسة: في خطاب القاهرة في يونيو 2009، أعلن الرئيس الجديد أمام العالم أنه يتمتع بخبرة مميزة لفهم عالم الإسلام كله، فهي معرفة "مترسخة في تجربتي الخاصة لأنني اختبرتُ الإسلام في ثلاث قارات قبل القدوم إلى المنطقة التي ظهر فيها أولاً"، لكن لم يكن الرئيس أوباما يتحدث في ذلك اليوم من موقع خيالي اسمه "عالم الإسلام"، بل كان موجوداً في القاهرة، في قلب الشرق الأوسط العربي حيث يحتل النفوذ الأهمية الكبرى. أعلن أوباما أمام المستمعين: "في صغري، أمضيتُ سنوات عدة في إندونيسيا وكنت أسمع نداء الأذان عند بزوغ الفجر وحلول الغسق". إنها لفتة جميلة، لكن كان الحكام العرب أكثر اهتماماً بمعرفة ما إذا كان سمع، حين أصبح راشداً، اقتراب صوت إطلاق النار ولاحظ تنامي تهديد "القاعدة" من المغرب العربي إلى شبه الجزيرة العربية، وفهم طموحات آيات الله في حين تقترب إيران أكثر فأكثر من تصنيع قنبلة نووية.بدأ أوباما بطرح فكرةٍ عن عدم وجود مشكلة أهم من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الشرق الأوسط. بعد خمس سنوات، ها قد خسر ثقة القادة الإسرائيليين والفلسطينيين معاً، وقد شاهد وزير الخارجية الثاني في عهده وهو يبذل جهوداً لا متناهية، ويحاول من دون جدوى عقد سلام شامل. قام أوباما بزعزعة العلاقات مع أقرب حليف للأميركيين في المنطقة من دون أن يحقق أمراً مهماً في "عملية السلام". النتيجة النهائية التي تحققت في صيف عام 2014 هي أن نشاهد السلطة الفلسطينية وهي تعقد اتفاقاً مع "حماس" لإجراء انتخابات جديدة (يبقى حصولها مستبعداً) من شأنها أن تجعل حماس تعقد صفقة لتقاسم السلطة، وهذا الوضع لا يعكس أي تقدم.مصر هي الدولة الأكثر اكتظاظاً بين البلدان العربية، وقد تمسّك أوباما هناك بدعم حسني مبارك لفترة طويلة تزامناً مع وصول الربيع العربي، ثم دعم الجيش وبعده الرئيس محمد مرسي المنتمي إلى "الإخوان المسلمين"، وها هو الآن يدعم الجيش مجدداً، تم التغاضي عن بعض الإخفاقات العابرة مثل ملاحقة رؤساء تحرير الصحف ورؤساء المنظمات غير الحكومية المدعومة من الأميركيين، أو اعتقال كل من ينتقد أصحاب السلطة في لحظة معينة. حين أطاح الجيش برئيس منتخَب، لم يكن ما حصل "انقلاباً" (أتذكرون هذا التصريح؟). وحين انقلب الوضع، نجحنا في إثارة استياء كل لاعب على الساحة السياسية المصرية، بدءاً من الجيش وصولاً إلى الإسلاميين والناشطين الديمقراطيين العلمانيين. من يثق بنا الآن على الساحة السياسية المصرية؟ لا أحد. لكن تبقى هذه الأخطاء طفيفة مقارنةً بتلك التي ارتُكبت في العراق وسورية، حين سُحقت الانتفاضة السلمية ضد الرئيس بشار الأسد بوحشية، قال أوباما إن الأسد يجب أن يرحل، وحين استعمل الأسد غاز السارين اعتبر أوباما أن هذا العمل غير مقبول كونه يتجاوز الخط الأحمر، لكن وراء تلك الكلمات لم يبرز أي نفوذ أميركي، ولا قيمة للخطابات في الشرق الأوسط، ورغم إصرار جميع مستشاريه البارزين (بانيتا في وكالة الاستخبارات المركزية ثم وزارة الدفاع، وكلينتون في وزارة الخارجية، وبتريوس في وكالة الاستخبارات المركزية، حتى ديمبسي في البنتاغون)، رفض الرئيس تقديم أي مساعدات مهمة إلى الثوار السوريين القوميين، فبدا وكأنه يتجاهل توصياتهم. تم الإعلان عن تقديم المساعدات في يونيو 2013 ثم مجدداً في يونيو 2014 (في خطاب "ويست بوينت")، لكن يبقى هذا الجهد محدوداً وأصغر من أن يضاهي وجود مقاتلي "حزب الله" وقوة "القدس" الإيرانية في سورية، ويعتبر العرب أن ما يحصل هو حرب بالوكالة مع إيران، لكن في البيت الأبيض، ينحصر التركيز على وضع جميع حروب الشرق الأوسط البغيضة وراءنا، وهكذا أصبح النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط مجرد سراب، وهو نفوذ لا يخشاه الأعداء ولا يتكل عليه الحلفاء.كانت النتيجة الإنسانية كارثية: قُتل 160 ألف شخص في سورية على الأقل، وتم تهجير ثمانية ملايين على الأرجح، وتوجّه أكثر من مليون سوري إلى لبنان (وهو بلد يشمل أربعة ملايين نسمة قبل أن يضيف إليه أوباما هؤلاء السوريين) ونحو مليون وربع لاجئ سوري إلى الأردن (6 ملايين نسمة قبل عهد أوباما)، وعادت عبارة "الغاز السام" إلى الساحة العالمية باعتباره سلاحاً مقبولاً، فقد استعمل الأسد غاز الكلور بشكل منهجي في "البراميل المتفجرة" هذه السنة، ولم يعاقَب على فعلته أو على استهدافه المتكرر للأهداف المدنية، واستقال اثنان من أبرز المسؤولين الذين يتولون الملف السوري في عهد أوباما (مبعوث وزارة الخارجية الخاص فريد هوف والسفير روبرت فورد) بسبب امتعاضهما من الوضع، فهما ما عادا يستطيعان الدفاع عن سياسة عدم التدخل التي يطبقها أوباما، فهل يمكن أن تقف سامنثا باور مكتوفة اليدين أمام أعمال القتل الجماعية في حين تشاهد رئيسها وهو يردّ على الأحداث بالكلام؟كانت النتيجة على المستوى الأمني أسوأ من ذلك: نشأ أكبر تجمع للمجاهدين حتى الآن، فهو يشمل 12 ألف عنصر والعدد في تزايد مستمر، وهم يأتون من جميع أنحاء العالم، وكأننا نشهد نشوء نسخ جهادية جديدة من جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ويأتي اثنان أو ثلاثة آلاف من أوروبا ونحو 70 من الولايات المتحدة. حين يعودون إلى ديارهم، لا شك أن بعضهم سيشعر بخيبة أمل، لكن سيصبح الكثيرون منهم ملتزمين بالجهاد، وسيتمتعون بمستوى عالٍ من الخبرة والتدريب، لكن ستقع "ديارهم" هذه المرة في مدن مثل ميلووكي ومانشستر ومارسيليا، وكما نشاهد الآن على الصفحات الأولى، وصلت هذه الموجة إلى الموصل. حين تولى أوباما منصب الرئاسة لم تكن هذه الظاهرة قائمة، فهي من صنع يديه نتيجة جموده إزاء الوضع السوري، حين كان السُّنة يتعرضون للذبح على يد نظام الأسد.* إليوت أبرامز | Elliott Abrams