نهضة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) تناولتها الأقلام وصفحات التاريخ وألسنة الشعراء ونظريات العلماء وقريحة الأدباء، من المسلمين وغيرهم، على مدى قرن ونصف من الزمن، في سابقةٍ قلّ نظيرها في مسيرة البشرية، ومازالت هذه الذكرى تتجدد لتواكب فلسفة كل عصر وتتناغم مع ضمير أمته بأعجوبة قد لا يفهم عمقها الحضاري ولا مكنونها الفكري إلا من آمن بالحسين حباً وقناعة ونموذجاً وقدوة بشخصه وفكره وامتداده، وأخيراً قيمة عطائه وتضحيته.

Ad

نعم، فاجعة الحسين (عليه السلام) فجرت بحراً من الأحزان رسمتها تلك الصورة الوحشية بقتله نحراً أمام أطفاله وحريمه بعدما أبيدت كتيبته الصغيرة التي لم تتجاوز السبعين رجلاً، نصفهم من أبنائه وأخوته وبني عمومته، ولم يتردد الجيش العرمرم في التكالب على جسده الأعزل بكل ما لديه من سلاح وعتاد، بل لم يسلم ذلك الجسد الشهيد من السلب والتمثيل وحوافر الخيل، ولم تترك الغيرة الإسلامية أو الشهامة العربية أو رحِمه من جده خاتم الأنبياء أي ورع أو حياء من سبي نسوته وأطفاله بتلك الطريقة التي لطخت وجه التاريخ البشري والإسلامي بالعار والشنار.

وإذا كانت شهادة الحسين بحراً من الحزن واللوعة، فإن هذا البحر لا يخلو من تلك الأمواج العالية التي لا تكل ولا تمل من الارتقاء والتمدد بين اللحظة والأخرى، وهذه الأمواج هي صرخات الإمام التي ترعب وتزلزل عروش الطغاة والظلمة، وهي تلك الشعارات الخالدة مثل "هيهات منّا الذلة" "ومثلي لا يبايع مثله" و"لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد".

وقصة الحسين (عليه السلام) بحر من العلوم والعبر لا تحاكي فقط الوقوف في وجه الفساد والمفسدين، وإنما تغذي ضمير البشرية بأروع معاني الصمود والشجاعة والاستبسال أمام حكومات الجور وشوكة نافذة في خاصرة الجلادين والمستكبرين، ولهذا يصل سيله إلى فهم أمثال المهاتما غاندي وماو تسى تونع وغيفارا وغيرهم من رموز الثورات البشرية في الثقافات والأمم المختلفة عبر التاريخ قديماً وحديثاً.

وبحر الحسين الحزين في أعماقه تستقر اللآلئ الثمينة والأحجار الكريمة التي لا ينالها إلا من أسبر أعماقه وبذل الجهد وتحدى الصعاب للظفر بها، ولآلئ الحسين تشمل تلك الصفات النبيلة والمكانة الرفيعة التي حباه إياها رب العالمين، وعلى لسان نبيه الكريم واختزلها المصطفى (ص) في مواضع نادرة عندما قال: "حسين مني وأنا من حسين"، وقال (ص): "الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة"، وقال أيضاً (ص): "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وهذه المعاني لا شك أنها تحتاج إلى فهم حقيقة الحسين بكل أبعادها، وعلى رأسها ملحمته الخالدة يوم عاشوراء في كربلاء.

وكما البحر في كبريائه ورعبه، فقد ابتلع بحر الحسين (ع) أعداءه والظالمين له وللشريعة المقدسة وسحقهم في أعماقه كما ابتلع بحر موسى (ع) فرعونَ وجنوده وعرشه وكل بطشه وجرائمه إلى العدم والنسيان، ليبقى هو في سجل البقاء والخلود إلى ما شاء الله.

فسلام عليك يا سيدي يا أبا عبدالله الحسين، وعلى الثلة المخلصة من أصحابك وأهل بيتك، وجعلنا الله من السائرين على هداك وفي رحابك ومن المنتصرين لمبادئك وشعاراتك في الحرية والكرامة الإنسانية!