كثيرون لا تسمح لهم الحياة الشاقة بتحقيق طموحاتهم ولا يمنحهم شظف العيش الأمل لبلوغ مآربهم. يستسلم الكثير منهم لوطأة الحياة وقسوتها ويميلون الى القناعة القدرية بما وكلوا اليه فتموت بذرة ابداع لديهم لم نتعرف عليها ولم تجد ما يساعدها على النمو والبروز. وقلة منهم تناضل بحق وصبر طويل وإرادة لا تهزم ولا تنحني أمام وسائل الضغط فتعمل على صعيدين متوازيين لتحقيق خبز بقائها الفطري وانماء ما قدر لها أن تكون عليه فعلا. محمد دكروب "السمكرى"، كما يطلق عليه، هو أحدهم وقبله كثيرون لا مجال لحصرهم منهم الحداد زكريا تامر رائد القصة القصيرة على سبيل المثال لا الحصر.

Ad

قرأت لمحمد دكروب كتابا واحدا في حياتي التي ازدحمت بالكتب بعنوان "الأدب الجديد والثورة" وكان يقدم لي وأبناء جيلي قراءة مغايرة للنقد المدرسي التقليدي التى رعته المؤسسة الرسمية. كان الرجل صادقا مع نفسه ومتصالحا مع أفكاره التى تخلى عنها كثيرون غيره والتزم بها حتى نهاية المشوار ليرحل وهو مؤمن بها. ولست هنا في مجال رثائه ولا تأبينه وهو يستحق ذلك، ولكنني أري أن حياته التى مر بها تحتاج وقفة أكثر من احتياج مماته. ولست أيضا طارحا أفكاره أو داعيا الى تبينها ولكنني مؤمن بنضاله ومعجب بقدرته على التفوق الكبير على ما رسمه له الفقر وشظف العيش.

سأنقل هنا فقرة من مقال الزميل محمد الحجيري في هذه الجريدة عن سيرته التي لم أكن أعرفها جيدا. "ترك المدرسة الجعفرية ليساعد والده في عمله، لكن لم يمنعه ذلك من متابعة لوثة القراءة والإطلاع على ما يتوافر له من كتب ومطبوعات، لا سيما مجلات مصرية، منها: "الكاتب المصري" لطه حسين التي كانت المصدر الرئيس لثقافته.

يقول دكروب: كنت عنيداً وغاضباً من تركي المدرسة، ومصراً على الوصول إلى ما أريد، وحين عملت في مشتل زراعي كنت أروي ظمأ العمال بالماء الذي أجول به عليهم، فقررت أن أستفيد من أوقات الاستراحة لأقرأ كتاباً في اليوم أو نصف كتاب على الأقل".

هذه الحياة القاسية لا تنبئ إطلاقا بأن الرجل سيكون في يوم من الأيام إحدى علامات الفكر والنشر في لبنان والوطن العربي وصاحب الكتاب الذي كنت قد قرأته. هذه الحياة كان لها أن توقف الرجل وترهنه لما قدرته له من عمل قد يصل به في أقسى الأحوال إلى عامل مغمور في مصنع أو مشتل زراعي ويموت دون أن يترك أثرا أو يهتم به أحد. وبالتأكيد ليس مطلوبا من كل من عاشوا هكذا حياة قاسية أن يكونوا مثله. ولكن ما يستوقفك في الفقرة التي كتبها الزميل هذه الجملة "أقرأ كتابا في اليوم أو نصف كتاب على الأقل" وهي الرسالة السامية التي حملتها حياة الراحل وهي تعادل ما أنجزه خلال عمره الطويل.

الكتاب الذي قررنا أن ننظر إليه ولا نرفعه قريبا من أعيننا، الكتاب الذي كنت أتمنى أن أرى البائع في استراحته والعامل في فراغه يتواصل معه ويتآلف معه ويعشقه هو أداة السحر الوحيدة التي صنعت مفكرا لم ينل قسطا من التعليم. الكتاب ليس مهمته بالضرورة أن يصنع مفكرا دائما لأن لذلك معطيات عقلية أخرى ولكنه بالتأكيد سيصنع من العقول التي تعتقد أن مهمتها توقفت عقولا لا تتوقف عن التفكير دائما بالأجمل. الكتاب اذا لم يصنع مفكرا فهو يصنع إنسانا وان كان بائع ترمس أو "سمكري" كمحمد دكروب. أتمنى أن تكون الرسالة وصلت لمن أعنيهم تحديدا!