«ظلت هوية الفتاة اليهودية ريتا التي أحبها درويش سرا مجهولا حتى كشف عنها الفيلم الوثائقى الجديد (سجل أنا عربي) للمخرجة والمصورة ابتسام مراعنة، الذي عرض قبل بضعة أيام في مهرجان تل أبيب للأفلام الوثائقية، وفاز بجائزة الجمهور».

Ad

 تلك فقرة مقتبسة من تقرير للمحرر محمد حامد من «الشروق المصرية»، منشور في صحيفة «آراء» الإلكترونية. ثم نقرأ في فقرة لاحقة: «ان ريتا كانت تعمل راقصة، التقى بها درويش لأول مرة وهي في السادسة عشرة من عمرها بعد انتهائها من أداء رقصتها خلال حفل للحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان درويش أحد أعضائه قبل استقالته منه».

 قد لا تعنينا في هذا المقام قصة الحب التي كان بطلها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ولا ملابسات اللقاء وأين كان. وإنما ما يلفت الانتباه هو الملابسات الأخرى ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، أو بالأحرى بما فهمناه وقرّ في وعينا حول العلاقة الحساسة والمتوترة بين الفلسطيني والاسرائيلي، والتي – نعتقد - أنها تشبه سلكاً كهربائياً مكشوفاً قابلاً بأن يصعق من يقترب منه ويحوله إلى رماد!

 ولكن يبدو أن ما يُروّج عربياً لطبيعة العلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية شيء، وما هو واقع الحال شيء آخر. الصورة الأولى تُقدم عادة للاستهلاك الجماهيري العربي لتظل القضية حاضرة في بعدها السياسي والقومي، أما الصورة الأخرى والأكثر واقعية فتعكس العلاقات في إيقاعها اليومي وبعدها الإنساني. وبسبب أننا نعيش بعيداً عن المشهد الحياتي الفلسطيني غالباً ما تغزو مخيلتنا صور قد لا تكون دقيقة أو حقيقية.

 لنتأمل ثانية في الاقتباس أعلاه، لندرك أن المخرجة الفلسطينية ابتسام مراعنة قد تقدمت بفيلمها الوثائقي عن محمود درويش إلى مهرجان «تل أبيب»، وأنه فاز بجائزة المهرجان، الذي من المؤكد أنه برعاية إسرائيلية. وقبل هذه المناسبة الراهنة بزمن طويل كان محمود درويش عضواً في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، حتى على اعتبار أن الحزب كان مناهضاً للصهيونية، تبقى المشاركة معبرة عن موقف تفاوضي وإيجابي. والقارئ لشعر درويش في سياقاته الزمنية المتعاقبة سيدرك أنه لم يكن شعر مقاومة محضة، أو شعراً مدججاً بالصراخ والقذائف، وإنما كان أيضاً شعراً متسائلاً وتفاوضياً وداعياً للسلام والتعايش.

 و»ريتا» محبوبة درويش اليهودية الإسرائيلية التي بُعثت ذكراها مؤخراً في فيلم وثائقي، سبق للشاعر أن خصها بقصيدة «ريتا والبندقية» التي يتلخص فحواها في مقولته: «بين ريتا وعيوني بندقية»، أي بيننا الصراع الذي يمتحن الحب ويؤلم القلب. وفي رسائله لها بالعبرية يعبر عن مشاعره قائلا: «لطالما حلمتُ أن أشرب معك الشاي في المساء، أي أن نتشارك السعادة والغبطة... أؤكد لكِ مرة أخرى أنني معك وأنكِ لستِ وحدك... شكراً لكِ لأنكِ جعلتِ لحياتي طعماً». وله أيضاً قصيدة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء»، والنص عبارة عن حوار مطول مع جندي إسرائيلي، يحاول فيه الشاعر أن يبحث عن مكامن الإنسانية في نفس الجندي ويستثير فيه الأسئلة حول جدوى الحروب، وضرورة استبدال السلام بكل ذلك الدمار.

 حين توجه أنور السادات عام 1978 لعقد معاهدة السلام الشهيرة مع إسرائيل، هاجت وماجت الكتل السياسية العربية التي تريد اقتلاع اسرائيل وإلقاءها في البحر (على مستوى أحلام اليقظة والشعارات الدونكيشوتية لا غير). وكانت بغداد وهي تتهيأ لحكم صدام حسين من أولى الطلائع المناهضة لمعاهدة السلام، تلاها تلك الحرب الشرسة من المقاطعة لمصر والسادات. ثم تكشّف لاحقاً من هم المستفيدون من (القضية) ومن بقائها ورقة للعب حين يحين اللعب. وكان غزو صدام للكويت من أثمن الفرص للعب بورقة «القضية» إياها!

وخلاصة الكلام أن بعضنا يعتقد أنه أكثر فلسطينيةً من الفلسطينيين أنفسهم، بل أكثر تورطاً بالقضية من أصحاب القضية! ولهذا يستمر الترويج للصراعات والصور البشعة وغير الحقيقية عن العلاقات اليومية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتكريسها للاستهلاك الجماهيري عربياً.

لا نقول ان الوضع مثالياً هناك، ولكن لندع الفلسطينيين – لمرة واحدة - يعالجون أوضاعهم بمعرفتهم، وكما يرونها ويختبرونها عن قرب. ولندعمهم في دعاوى السلام والتعايش الآمن كما كان يحلم محمود درويش، حين وصف حال الجندي الإسرائيلي قائلاً:

يفهمُ – قال لي – ان الوطن

أن أحتسي قهوة أمي... أن أعود، آمناً، مع المساء