تمر منطقتنا بمرحلة انتقالية تاريخية غير مستقرة حتى الآن تواجه فيها قوى الثورة والتحول الديمقراطي تحديات صعبة ومعقدة ومصالح متناقضة وأجندات متشابكة محلياً وإقليمياً ودولياً نتجت عن عقود طويلة من حكم الاستبداد والتسلط والطغيان والتبعية الاقتصادية والسياسية.

Ad

ومن الطبيعي أن تؤدي صعوبة المرحلة الانتقالية وتعقيداتها إلى صعوبة بالغة في تحديد المواقف والاصطفافات السياسية التي تتغيّر باستمرار لتتواءم مع الواقع السياسي المتجدد، لهذا فمن المفروض عدم الاعتماد في عملية فهم وتحليل القضايا والأحداث السياسية والاجتماعية المتداخلة والمعقدة والمتسارعة التي نتجت عن ثورات الربيع العربي على المعلومات والبيانات التي تطفو على السطح، وتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي التي توجهها غالباً قوى متخلفة لها مصلحة في تضليل الرأي العام، أو الاستسلام لسطحية التبسيط وسهولته، فالأحداث العظيمة تتطلب تحليلاً هادئاً ومعمقاً من أجل معرفة ملابسات الواقع المعقد وأسبابه ومعطياته وظروفه.

ومن أمثلة القراءة السطحية للأحداث الكبيرة التركيز على تصرفات فردية معزولة، ثم ترديد شعارات زائفة حول الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان تروجها أحياناً كثيرة قوى متخلفة غير مؤمنة بها أصلاً، وذلك لتناقضها الكامل مع منطلقاتها الفكرية والسياسية، وهو ما أثبته الواقع خلال فترة حكم "الإخوان المسلمين" في مصر، ثم بشكل أكثر وضوحاً بعد الموجة الثانية للثورة المصرية المجيدة في 30 يونيو التي أزاحتهم عن السلطة، حيث تخوض القوى الثورية الآن معركة سياسية شرسة مع "الفلول" والمطبلين للدكتاتورية العسكرية في آن، وهو ما سبق أن أشرنا إليه في مقال بتاريخ  15 يوليو 2013 تحت عنوان "عن الثورة المصرية والفلول والعسكر".

ثورة 30 يونيو سيكون لها، في حال تحقيقها أهدافها، تأثير إيجابي في مجمل الوضع العربي، فها هي أولى "البشائر" تأتي إلينا من تونس الثورة، إذ تم التوافق الوطني على دستور مدني يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية عصرية.

وحيث إن المرحلة الانتقالية الحالية التي تمر بها منطقتنا تعتبر منعطفاً تاريخياً ضخماً وعميقاً فإنه يتطلب قراءة علمية معمقة وجديدة بعيدة عن التبسيط الموغل في السطحية أو الشعارات النظرية المستهلكة، بحيث يترتب على هذه القراءة الهادئة مراجعات فكرية ومواقف سياسية حاسمة لا تعرف التكتيكات الانتهازية والتلون السياسي.

ومن المؤسف أنه في الوقت الذي تعلن فيه قوى التخلف بشكل واضح وصريح مواقفها المعادية للتحولات الديمقراطية الجدية والدولة المدنية والرأي الآخر والإرادة الحقيقية للشعوب في الدول العربية التي خرجت تطالب بالحرية والكرامة والعيش والعدالة الاجتماعية، وإنهاء حكم الاستبداد والتخلف والانفراد بالسلطة، فإننا نجد قوى وعناصر ديمقراطية وتقدمية لدينا إما صامتة وإما تتخذ مواقف ضبابية مُلتبسة تتجنب فيها الإشارة إلى أي موقف صريح مؤيد لثورة 30 يونيو المجيدة في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة.

صحيح أن لكل بلد ظروفه ولكل مرحلة تاريخية اصطفافاتها السياسية، ولكن بشكل عام كيف لنا أن نطمئن في هذه المرحلة إلى قوى "سياسية" لا تعير أي اهتمام للشراكة الوطنية والحريات والديمقراطية (آليات وقيم وليس "سلّم" فقط للانفراد بالسلطة) ولا تعترف بالرأي الآخر بل تشتمه وتسخر منه وتنتظر الفرصة للقضاء عليه نهائياً؟

ثم ما الفرق هنا بين هذه القوى والتنظيمات وبين أنظمة الاستبداد والتسلط والطغيان والقمع التي ثارت عليها الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية؟!