{عوامل السلم الأهلي والنزاع الأهلي في سوريا»... توق إلى الحياة
صدر حديثاً عن مركز «المجتمع المدني والديمقراطية» في سورية كتاب جديد بعنوان «عوامل السلم الأهلي والنزاع الأهلي في سوريا»، لأربعة باحثين هم: ناريمان عامر، بدرخان علي، محمد سامي الكيال، ومحمد ديبو.
انطلقت فكرة كتاب (أو الدراسة) “عوامل السلم الأهلي والنزاع الأهلي في سوريا” من ورشات بناء برنامج الإعلام المدني التي أنجزها مركز المجتمع المدني والديقراطية في سورية، حيث نوقشت قضايا ملحة ركزت على أساسيات العمل الصحافي والإعلامي، وهدف المشروع إلى إنشاء شبكة من المواطنين الصحافيين، تكون ملمة بقضايا الوضع السوري ومتعلقاتها في ما يخص الحفاظ على السلم الأهلي والمشاركة في تعزيزه. خلال جلسات التدريب التي أضيف إليها نقاش قضايا السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وإدراج النوع الاجتماعي، وبالنظر إلى تنوع انتماءات المتدربين القومية أو المذهبية أو الفكرية أو المناطقية، خلص فريق التدريب إلى إعداد دراسة من خلال تحديد العوامل الرئيسة للسلم والنزاع الأهليين في سورية.
وبعد تحديد العوامل التي تم الاتفاق عليها، وإعدادها وتحريرها، أرسلت هذه الآراء إلى أربعة باحثين سوريين متابعين لمجرى الأحداث وسياق التحول في سورية، للاستئناس وتطعيم دراساتهم بها، كونها عبرت عن وعي الشريحة الشبابية النشطة في مجال الإعلام بواقع المناطق السورية. فهي أفكار مهمة تؤشر لتحديد الرؤية العامة للشباب السوري، وقراءته لميكانيزمات الصراع الأهلي واستقراره في سورية.الخلاص من الهيمنةخلاصة الدراسة كانت الدعوة إلى «التوق إلى الحياة» بدلاً من «السلم الأهلي» الذي «عبّر عن سعي البشر إلى الخلاص من أشكال التحكم والهيمنة والضبط والسيطرة التي تحكم حياتهم، وصولاً إلى انتزاعهم لحقهم في إنتاج شروط حياتهم وتسييرها، وإطلاق قدراتهم وتنميتها بعيداً عن السلطة». وما يميز هذا المفهوم أنه لا يهتم بـ»المكونات الاجتماعية»، ويرى أن التركيز عليها هو إنشاء سلطوي يهدف إلى تكبيل البشر بمزيد من القيود بدعوى الهوية. فالتناقض الأساسي ليس بين المكونات، بل «بين دوافع البشر إلى الحركة والحياة من جهة، وفعل السلطة، بمفهومها الأوسع، للحد من هذه الدوافع والسيطرة عليها من حهة أخرى».ووفقاً لأداة الحفر المعرفية تلك، تتضح دوافع اشتعال الثورة السورية التي قامت بعدما خنقت دوائر السيطرة السلطوية الأفراد والجماعات، وجعلت استمرار حياتها بالأسلوب القديم مستحيلاً، لتنعم الطبقة المتنفذة والمسيطرة بنمط تحكم ورفاهية عالٍ في مربعاتها الأمنية والاقتصادية، لذلك فالثورة السورية ليست نزاعاً بين مكونات مجتمعية جامدة، وحرباً أهلية. وإذا كانت قد أغرقت في التجييش الطائفي والهوياتي والتدخلات الإقليمية والدولية، فتلك هي بالضبط آليات السلطة في قمع «التوق إلى الحياة» والسيطرة عليه، بالإضافة إلى ما اقترفه النظام السوري من سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية. والثورة لا تنتهي وتفشل بهذه الصورة، حتى لو توقفت أو تراجعت أو تشعبت سبلها مرحلياً، ما دام التناقض الأساسي، غير القابل للتهدئة والتأجيل قائماً. لا يُعنى مفهوم «التوق إلى الحياة» كثيراً بشكل وصيغة الدولة المقبلة، ولكنه يناضل بكل قوة ضد أشكال السلطة المتوحشة، ويعمل على الحد من تدخل أي دولة وهيمنتها في حياة المجتمع، ويسعى إلى تحقيق أكبر استقلالية ممكنة للمجتمع عن جهاز الدولة وسيطرته، عن طريق انتزاع حق الناس في إدارة مجتمعاتهم ذاتياً، وإعطائهم المبادرة المستقلة، وفتح كل السبل أمامهم لإطلاق قدراتهم وطاقاتهم وتنميتها. من دون تحقيق هذا فإن النزاع سيستمر، والسلم الأهلي سيصبح حلماً بعيد المنال، أو بالأصح فإن الثورة ستستمر.دولة أمنيّةفي دراسته التفكيكية لعوامل النزاع والسلم الأهلي فنّد الباحث محمد سامي الكيال تردد الكثيرين وتحفظهم على المشاركة في عملية التغيير الاجتماعي في البلاد، لأن كل سعي إلى تجاوز الوضع القائم في سورية سيصطدم حتماً بقضية السلم الأهلي ومخاوف النزاع والاقتتال الداخلي.ناريمان عامر بحثت في ما يؤجج سلم سورية الدولة ويطفئ عنفها، منطلقة من «أن سورية دولة أمنية، استطاعت عبر العقود الثلاثة المنصرمة توطيد شكل من العقد الاجتماعي بين الحكومة ومواطنيها يقوم على القمع مقابل الأمن، بينما تجد هذه الصيغة الأمنية مبررها الخارجي في إيديولوجيا المقاومة، ذلك أن دول المواجهة غالباً ما تتطلب جهازاً أمنياً يطبق على الدولة والمجتمع معاً».وقد كانت تلك الحالة وراء إشعال الثورة السورية، بعد تكثيف عوامل إشعالها المتعددة، إلا أن الباحثة تميل إلى ترجيح ثقل اللحظة الخارجية في انتقال كل المسببات الحاضرة والموجبة للحراك من كونها إمكانية إلى التحقق بالفعل. فموجة الحراك التي ضربت المنطقة العربية ابتداءً من تونس وصلت ارتداداتها إلى سورية، إنه بالضبط انفتاح لحظة الداخل على الخارج.أما بدرخان علي فتناول السلم الأهلي، من خلال دراسة الصراع الاجتماعي السياسي في ظل الثورة السورية، التي تعتبر أضخم حدث في تاريخ سورية الحديثة، وقد أحدث انقساماً وطنياً حاداً. ففي بداية الثورة لم يكن الانقسام طائفياً أو قومياً، فلم يكن النظام علوياً، ولم تكن المعارضة سنية. وكان شعار النظام المحور العام الذي التفّت حوله التيارات المعارضة المختلفة والمتباعدة. وإلى اليوم لم ترفع الثورة مطلب الفقراء من خبز ومال، بل تريد الحرية والكرامة.في بحثه عن الطائفية ودورها في النزاع الأهلي، انطلق محمد ديبو من تحليل بنية النظام السوري من بوابة الطائفية وأسباب تأخر سقوطه، ودور المعارضة في ذلك، ليصل إلى ميكانيزمات تنامي الطائفية والنزاع الأهلي. وقد وصل الباحث إلى أن النظام السوري ليس نظاماً طائفياً، بل نظام يستجدي الطائفية لمصلحته. «ورغم أن العنصر الطائفي العلوي هو الأساس الذي ستتركز عليه السلطة، فليس لأن السلطة طائفية، بل لأنها سلطوية ذات بعد طائفي، فبعد خروج السلطة منتصرة في الثمانينات ستبدأ تتشكل بنية النظام على هذا المستوى، إذ سيقوض النظام بنيان الحياة السياسية التي كانت مؤسسات مستقلة عن الدولة، ليترك المجتمع كما هو في حالة فراغ سيملأ بطائفية مستترة كانت موجودة قبل النظام، ولم يفعل إلا أن استغلها». أبرز ما يميز هذا النظام هو ادعاؤه بصفات وفعل عكسها، وتجريمه لكل من يتحدث بالطائفية والعشائرية، ويتمادى في ممارستها.