المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)

نشر في 06-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 06-04-2014 | 00:01
No Image Caption
يصدر قريباً عن منشورات الجمل كتاب «المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال/ التجربة العراقية» للكاتب والروائي سلام عبود، في ما يلي مقتطف من المقدمة، يتطرق فيها إلى العنف السياسي وإشكالات البحث العلمي...
{العنف عدو، والشر خصم أبدي، والخضوع آفة كريهة، هي موضوع ومادة الكتاب الرئيسة، معروضة من طريق نماذج وحالات دراسية مستقاة من حياة المجتمع العراقي، يشغل حيزاً كبيراً فيها موضوع التحولات التي طرأت على الممارسة والفكر الشيوعيين، تزامناً مع وقوع العراق تحت سلطة الاحتلال الأميركي.

ضمور حجم اليسار، وخفوت صوته، علامة كبيرة من علامات التدني في الممارسة السياسية والاجتماعية الوطنية. فلم يزل هذا التيار، رغم سقوط المنظومة الشيوعية، قادراً على لعب دور اجتماعي وثقافي وسياسي، كبير وضروري، في مجتمعاتنا العربية وفي المجتمع العراقي خاصة. إن ضياع صوت اليسار واحد من النتائج الطبيعية لسياسة الاحتلال عامة، ولعدم قدرة مثقفي هذا التيار على لعب دور وطني واجتماعي متميز، يمنحهم الحق في الوجود والاستمرار والرقي. إن انحسار دور التيارات الاشتراكية والديموقراطية نتيجة قاسية، وإفقار خطير للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، لا يقل خطورة عن غزو الوطن وتمزيق أوصاله ونهب ثرواته، إن لم يكن جزءاً أساسياً من هذه السياسة التدميرية.

إعادة نظر

ما الدور الذي يتحمله المثقف الشيوعي في صناعة هذا التهور؟ وكيف يمكن لليسار إعادة النظر في واقعه من أجل تغييره؟ هذه الأسئلة هي محور بحث هذا الكتاب، معروضة من طريق تحليل المواقف والأفكار والممارسات الثقافية، وتحليل حالات عيانية وربطها بالواقع وبالبيئة التي أنتجتها.

على الرغم من صدور غير كتاب يتناول ظاهرة العنف السياسي في العراق، إلا أن الحاجة إلى تعميق بحث هذا الموضوع لم تزل قائمة وملحّة، لأسباب عديدة، أهمها، أولا: البحوث الصادرة عن العنف لم تزل شحيحة وعامة، ولم يزل الدرس والبحث التوثيقي في هذا الموضوع في بواكيره التجميعية الأولى؛ أما التحقيق والضبط والمقارنة  والتمحيص فما زالت بعيدة المنال.

إن المرء يسعد حينما يقرأ صفحات خفية من التاريخ العراقي بقلم سياسي عراقي مثل حازم جواد، الذي تولى مهمة خطيرة في حقبة دموية. ويشعر المرء بسعادة أكبر حينما يجده يتحلى ببعض الروح الناقدة وصراحة غير متوقعة. لكن ذلك التاريخ المروي على لسان أعلى سلطة في جهاز العنف السياسي، في واحدة من أحلك تواريخ الشعب العراقي، يثير آلاف التساؤلات المتعلقة بصحة وتأويل ودرجة صدقية الروايات والرواة.

سلاح الجريمة

 أحداث يعرفها الناس جميعاً، أضحت وقائعها أقرب إلى الحقيقة الثابتة، لكنها لم تزل تثير الشكوك، بل تضج بالتناقضات: لماذا عدلت رسالة انتحار عبد المحسن السعدون المكتوبة باللغة التركية؟ أين اختفى مرافقو الملك غازي عند وقوع الحادث؟ هل حقاً أن عبد السلام جرد مسدسه خلسة ليغتال عبد الكريم، وأن محباً يقظاً هجم على المتآمر وجرده من سلاح الجريمة!؟ إذا كان استسلام عبد الكريم قاسم تمّ ربطه بمكالمة هاتفية، وأمل ما، كان مقدر له أن يصدر عن عبدالسلام عارف، على طريقة العين بالعين والسن بالسن، فكيف نفسر استسلام المهدواي، الذي كان دمه  أحد شعارات الانقلاب التحريضية الكبرى؟ من أصدر أوامر قتل سلام عادل ورفاقه، وما موجبات ذلك القتل، ومن نفذ وأشرف على حفلات تقطيعهم المسلية؟ من قادة ومنفذو فرق الجهاز الصدامي ومكتب العلاقات العامة والشعب الخاصة؟ مثل هذه الأسئلة يمكن تعميمها على أحداث كثيرة، منها انتحار وإسقاط سياسيين عراقيين واغتيال بعضهم وإعدام آخرين في حقب مختلفة. إن مصادر التاريخ العراقي، المتعلقة بالمسؤوليات الجنائية، وبتوثيق الأحداث، جزء من التباسات الواقع العراقي، وربما تكون جزءا من خصائص هذا الواقع وتشوهاته البنيوية التأسيسية، التي تجعل الدوران في مسارات الخطأ حالة دائمة، وتعني أن العنف في الواقع والعنف مدوناً كوثيقة، يعيشان الحالة ذاتها: الإنغلاق التام».

{لم يزل البحث الدراسي في موضوع العنف يتم من طريق وضع العنف ضمن سياق تاريخي للأفراد أو للأحداث السياسية والحقب، يراد به تدعيم فكرة سياسية ما وترجيح أخرى، من دون أن يكون العنف، بذاته، مادة خاصة، وموضوعاً للمعاينة والتحليل واستخلاص النتائج. لم يزل العنف جزءاً ملحقاً أكثر من كونه مادة مستقلة. لهذا السبب تبدو هذه المهمة عسيرة ومربكة، لكنها ممكنة أيضاً، بحدود معينة، بالقدر الذي يمكن استحصاله من الواقع الدراسي الراهن. وما هذا البحث سوى محاولة أولية للانتقال بموضوع العنف من التوثيق الخبري، والوصف السياسي، إلى البحث النوعي في الظاهرة، وفي أشكال ظهورها في مرحلة تاريخية معينة، وسبل تطورها، والأهم من كل ذلك، البحث في أشكال انتقالها من جيل الى جيل، وأساليب تأثير الخبرات العنفية ببعضها، باعتبارها تاريخاً بشرياً حياً، معيشاً.

 إن العنف عند الممارسة يتحول من وظيفة إجرائية تنفيذية لمواجهة الخصوم، الى نهج سياسي وسلوك إجتماعي وما يرافقه من ردود أفعال بشرية ومهارات فنية متبادلة. أي يقوم العنف بنسج شبكة من المؤثرات النفسية والعقلية والفنية الدفاعية والهجومية، يمكن أن نسميها بناء ثقافياً. أي خبرات عملية وعاطفية مصحوبة بمنظومة تنفيذية وبغطاء روحي وأخلاقي مساند، تحكمها سلسلة متبادلة من عناصر الاستقبال والإرسال، والاستجابة والرفض . وكما أن صناعة السينما تخلق وعياً سينمائياً وذائقة وردود أفعال نفسية وشعورية ومقلدين ومتأثرين، فإن العنف يفعل ذلك أيضا، وبقوة مضاعفة ومركبّة، لأنه يمس الأطراف كلها: الممثل والمشاهد والمنتج والمخرج وكاتب النص، وحتى الجهاز الفني المشرف والمنفذ للعمل.

من مساوئ الإنسان- وهي حسنة دفاعية هامة وضرورية في منظومة البقاء والحفاظ على النوع- أنه ينسى. وإذا أراد أن يتذكر فهو يتذكر بطريقة سببية، تقوم على المقارنات. لهذا تنسب شرور الاحتلال الأميركي وفساد الحكم كله إلى حقبة صدام، بما في ذلك العنف والتزوير وشراء شركات الكهرباء الوهمية والزرقاوي والقاعدة وغيرها من الشرور. ولم يكن نظام البعث يرى في نفسه  سوى تصحيح لأخطاء وجرائم حكومة العارفين وما سبقها، ولم يكن انقلاب عارف سوى تصحيح لانحرافات رمضان، ولم يكن رمضان سوى تصحيح لانحرافات تموز، ولم يكن تموز سوى تصحيح لانحرافات الحقبة الملكية، ولم يكن احتلال العراق بريطانيا وتأسيس المملكة العراقية سوى تصحيح للاحتلال العثماني... هكذا تمد لوحة التصحيح من دون انقطاع، وتمتدّ معها متوالية العنف الهندسية اللانهائية}.  

back to top