أخطأ الأميركيون عندما استجابوا لتطلعات إيران وبعض أطراف المعارضة الخارجية وقبلوا بـ"فرْط" الدولة العراقية، بكل مؤسساتها ومكوناتها، وحل الجيش العراقي "عن بكرة أبيه"، ثم أخطأوا أكثر عندما انسحبوا من العراق عام 2011 لا يلوون على شيء، وتركوه تحت رحمة ونزوات قوى متصارعة ورحمة حكومة بقيت تتصرف مذهبياً وطائفياً ثمانية أعوام فأوصلته إلى هذا الانقسام الخطير الذي ستترتب عليه تطورات داخلية وإقليمية خطيرة.

Ad

والآن فإنهم لن يرتكبوا خطأً بل حماقة قاتلة إنْ هم تدخلوا عسكرياً في هذا البلد الذي غدا ممزقاً واستهدفوا الفئة التي أدى استهدافها وعزلها والتفنن في إهانتها إلى نفاد صبرها وقيامها بالانتفاضة الأخيرة التي قلبت أوضاع العراق رأساً على عقب، وجعلت حاضره ومستقبله أيضاً يختلفان اختلافاً جذرياً عما كان عليه الوضع قبل العاشر من هذا الشهر.

سيُصبح حلُّ هذه العقدة المستعصية بحاجة إلى استخدام الأسنان بدلاً من استخدام الأصابع إذا انحاز الأميركيون بتدخلهم العسكري إلى جانب الفئة الظالمة ضد الفئة المظلومة، في ظل الاستقطاب الذي تشهده هذه المنطقة نتيجة تحول الصراع في سورية والعراق إلى صراع طائفي، ستدفع ثمنه الولايات المتحدة في هيئة مستجدات أمنية في الشرق الأوسط كله ستستهدف مصالحها الحيوية، وهي كثيرة وفي غاية الأهمية.

من غير الممكن ألا تنتفض هذه المنطقة ضد الولايات المتحدة ومصالحها إن هي استهدفت، بحجة مقاومة "داعش" والإرهاب، السنة العرب الذين لم يلجأوا إلى العنف والعمل المسلح إلا بعد أكثر من عشرة أعوام من الصبر على الظلم الذي لحق بهم في معادلة المحاصصة الطائفية التي وضعها بول بريمر ومعه بعض المتورمة أكبادهم بالحقد المذهبي.

ربما لم يدرك وزير الخارجية الأميركي جون كيري بعد أن الرأي العام الغالب في هذه المنطقة في غاية الاستياء من تعاطي بلاده مع الأزمة السورية، ويعتبر أن تردد الرئيس باراك أوباما هو ما جعل هذه الأزمة تستمر أكثر من ثلاثة أعوام وهو ما شجع بشار الأسد على استخدام مزيد من العنف والتدمير ضد الشعب السوري، وهو ما حول هذا البلد إلى ساحة لتسديد الكثير من الحسابات الإقليمية والدولية.

وبالطبع فإن كيري لابد أنه يعرف أن أهل هذه المنطقة ومعهم العرب كلهم والعالم الإسلامي بأسره يحمِّلون الولايات المتحدة مسؤولية المأساة الفلسطينية ومسؤولية تطاول الإسرائيليين، بلا حدود على الشعب الفلسطيني، وأنهم يعتقدون، وهو اعتقاد صحيح، أن المصلحة الإسرائيلية هي الدافع الحقيقي لتدمير "كيماوي" بشار الأسد، وهي الدافع الحقيقي أيضاً لكل هذه الجهود التي تبذلها واشنطن لقطع الطريق على التطلعات الإيرانية لإنتاج القنبلة النووية.

ولهذا فإن أرادت الولايات المتحدة أن تتدخل في الأزمة العراقية المتفاقمة باعتبارها المسؤولة عن كل ما جرى في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 فإن عليها أن تبتعد نهائياً عن الحلول العسكرية وألا تنساق مع كذبة أنَّ نوري المالكي مثله مثل بشار الأسد يواجه الإرهاب المتمثل في "داعش"، فالمشكلة في العراق كما هي في سورية تتمثل في أن نظاماً مستبداً يستهدف فئة معينة استهدافاً مذهبياً لم يعد خافياً على أحد، وأنه إمعاناً في إقحام هذه المنطقة بصراع طائفي ربما لن ينتهي لعشرات السنين قد أدخل إيران على خط هذا الاستهداف الذي تجاوز الخطوط الحمراء كلها.