على خطى العراق... أفغانستان قد تغرق في الفوضى أيضاً!
رحّب المالكي بمجموعتَين ميليشياويتَين تحظيان بدعم إيران وتحاربان إلى جانب قوى الأمن العراقية الضعيفة في صراعها ضد مقاتلين سنّة، كما أن هاتين المجموعتين تُعتبران مسؤولتين عن ارتكاب مجازر ضد السنّة في مناطق مثل بهرز شمال بغداد.
أجرت أفغانستان انتخابات قبل بضعة أسابيع، تماماً مثل العراق قبل بضعة أيام. لكن هذه الانتخابات تُعتبر اليوم القاسم المشترك الوحيد بين هذين البلدين اللذين غزتهما الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، فأفغانستان تتقدم بالسرعة عينها التي يتراجع بها العراق، ولا شك أن هذا تناقض معبّر يجب أن يشكّل نقطة أساسية في القرار الذي سيُتخذ قريباً بشأن وجود القوات الأميركية في أفغانستان بعد عام 2014.يزداد العراق غرقاً في جحيم الحرب الأهلية المفتوحة التي لم يكد يتفاداها عام 2007 بفضل عملية زيادة عدد الجنود، التي نفذها الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، فقد عاد العنف اليوم إلى مستويات عام 2008 مع نهوض تنظيم "القاعدة" في العراق، أو ما يُعرف اليوم بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، مجدداً بعد أن كان قد شارف على الموت. عاودت "داعش" بسط سيطرتها على الجزء الأكبر من محافظة الأنبار، ويفجر مقاتلوها بانتظام سيارات مفخخة تقتل أعداداً كبيرة من الأبرياء في المناطق الشيعية، كذلك بدأ هؤلاء المقاتلون يقتربون من بغداد بحد ذاتها، مسترجعين مناطق خسروها في عامَي 2007 و2008. نتيجة لذلك، بات الوضع شديد الخطورة، حتى إن الحكومة أقفلت سجن أبو غريب السيئ السمعة غرب بغداد خوفاً من أن يسقط بين أيدي المتمردين.
يعود بروز تنظيم "القاعدة" هذا إلى قِصر نظر سياسات رئيس الوزراء العراقي الطائفي، نوري المالكي، الذي ما عاد يواجه أي رادع في ظل غياب الوجود الأميركي. نتيجة لذلك، استهدف كبار السياسيين السنّة، بمن فيهم نائب الرئيس السابق طارق هاشمي، بملاحقتهم قضائياً. كذلك أطلق النار على عدد من المتظاهرين السنّة، والأسوأ من ذلك أنه رحّب بالمجموعتَين الميليشياويتَين "عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله"، اللتين تحظيان بالدعم من إيران وتحاربان إلى جانب قوى الأمن العراقية الضعيفة في صراعها ضد المقاتلين السنّة. كما أن هاتين المجموعتين الميليشياويتين تُعتبران مسؤولتين عن ارتكاب مجازر ضد السنة في مناطق مثل بهرز شمال بغداد.يتخبط العراق اليوم وسط دوامة من العنف الطائفي (مع قتل السنّة الشيعة رداً على قتل الشيعة السنّة والعكس) تغرقه في جحيم متأجج كانت قد سبقته إليه أمم مثل يوغوسلافيا ورواندا وسورية. ولا يلوح في الأفق أي مخرج منها لأن المالكي، بتلاعبه بسياسات العراق الطائفية، نجح في تعزيز دعمه الشيعي، ما سيضمن على الأرجح بقاءه في السلطة لولاية ثالثة رغم انهيار البلد (لا تزال المنطقة الكردية شبه المستقلة وحدها مستقرة).لنقارن هذا المشهد بما نراه في أفغانستان، التي زرتُها أخيراً. صحيح أن العنف، والفساد، وإنتاج المخدرات، وعدم فاعلية الحكومة لا تزال مشاكل حقيقية فيما يُعتبر حتى اليوم إحدى أفقر الدول في العالم، لكن أفغانستان تحقق تقدماً ملموساً، فتشهد كابول نشاطاً كبيراً وتُعتبر أكثر أماناً بكثير من بغداد، رغم ما تعانيه أحياناً من اعتداءات "طالبان" العنيفة. علاوة على ذلك، تمكنت قوى الأمن الوطنية الأفغانية، التي تعدّ 370 ألفاً، بمفردها تقريباً من التصدي لمحاولات حركة "طالبان" في الصيف الماضي استعادة معاقل لها في إقليمَي قندهار وهلمند كانت قد خسرتها خلال الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة بين عامَي 2010 و2012.والمثير حقاً للاهتمام أن قوى الأمن نجحت بدون أي مساعدة من قوات الائتلاف على الأرض في تأمين الانتخابات الرئاسية في الخامس من أبريل، رغم محاولات "طالبان" تعطيلها، وقد أشارت مصادر إخبارية أفغانية إلى أن نحو 7 ملايين ناخب (أكثر من 30% منهم من النساء) توجهوا إلى صناديق الاقتراع. أما المشجع حقاً، فيبقى واقع أن المرشحَين اللذين حصدا العدد الأكبر من الأصوات (وزير الخارجية السابق عبدالله عبدالله ووزير المالية السابق أشرف غني) يُعتبران من المعتدلين الموالين للغرب الذين تعهدوا بتوقيع اتفاق يسمح للجنود الأميركيين بالبقاء في أفغانستان بعد عام 2014.لم يكن أي من هذين المرشحين مفضلاً لدى الرئيس الحالي حامد كرزاي، الذي يعتبره ناخبون كثر فاسداً جداً ومناهضاً للولايات المتحدة إلى أبعد الحدود. كذلك نجح كلا هذين المرشحين في تخطي الحواجز الإثنينة: فقد نجح غني، وهو من البشتون، في استمالة الناخبين الأوزبك بفضل اختياره سيد الحرب الأوزبكي عبدالرشيد دوستم ليترشح إلى جانبه. أما عبدالله، الذي يتمتع بأصول طاجيكية وبشتوينة، فقد تمكن من الفوز بأصوات البشتون بفضل استراتيجية الانفتاح التي تبناها.ولا شك أن فوز أي من هذين الرجلين في الانتخابات سيمثل أول عملية انتقال سلمي للسلطة في تاريخ أفغانستان الحديث.ما من أمر حتّم أن يكون أداء أفغانستان أفضل من العراق في مجالات عدة، فهي لا تتمتع بثروة نفطية كما العراق، فضلاً عن أن شعبها أفقر وأقل تعلماً، كذلك تنعم حركة التمرد فيها بدعم أكبر عبر الحدود (من باكستان)، مقارنة بأي من مراحل الحرب في العراق. وقبل بضع سنوات، بدا العراق أفضل حالاً: تفاخر الرئيس أوباما في الرابع من ديسمبر عام 2011، قائلاً: "نترك دولة عراقية مستقرة تعتمد على ذاتها وتتمتع بالسيادة".ولكن بالنظر إلى الماضي نلاحظ بوضوح أن العراق بدأ يتدهور لحظة مغادرة القوات الأميركية. فمن دون نصحها ودعمها، ما عادت القوات المسلحة العراقية، مهما بدت قوية على الورق، قادرة على إطعام جنودها وتزويدهم بالإمدادات الضرورية، فكم بالأحرى إنزال الهزيمة بمقاتلي القاعدة؟ والأهم من ذلك أن رحيل الجنود الأميركيين سلب المسؤولين الأميركيين النفوذ الذي كانوا يتمتعون به وطالما أتاح لهم الحد من ميول المالكي الطائفية.ثمة درس مهم من الضروري تعلّمه هنا: من الأهمية بمكان إبقاء عدد لا يُستهان به من الجنود الأميركيين في أفغانستان بعد هذه السنة. يُطالب القادة العسكريون بما لا يقل عن 10 آلاف جندي، وإذا لم يوافق البيت الأبيض على هذا الطلب (كما تشير التسريبات)، فسيزداد احتمال أن تغرق أفغانستان، على غرار العراق، في حرب أهلية تبدّد كل ما قدّم الجنود الأميركيون تضحيات غالية في سبيل تحقيقه.* ماكس بوت | Max Boot