الرقص كهوية قومية
من دون أن أعرف السبب، وجدت نفسي أدوِّن مقالات وعجالات كثيرة عن الرقص الشَّرْقيّ والراقصات في العالم العربيّ والغرب، علماً أني لم أقصد يوماً المنتجعات السياحية لمتابعة الراقصات. ربمّا يكون اندفاعي إلى الكتابة عن الرقص الشرقي فقدان المكتبة العربية لكتب جيدة عنه، رغم أنه طالما شغل جمهور الحفلات والتلفزيون والأفلام ورجال الأعمال والسياسة والأدباء والشعراء والأصوليين وحركة «حماس» الإخوانية الفلسطينية، من دون أن ننسى الأفكار الاستشراقية في هذا الإطار. ومع ذلك بقي الرقص الشرقيّ هامشياً في الكتابة العربية، لم يتحوّل إلى علامة «وطنيّة» أو «قوميّة». في المقابل، اختار بعض البلدان الرقص ليكون واجهة حضارته، وغدت أسماء بعض الرقصات الشهيرة هويّات بارزة وعلامات فارقة لبعض الدول في المحافل الدوليّة، وفي مناسبات كبرى، كالإشارة إلى المنتخب الأرجنتينيّ بمنتخب التانغو، في إشارة إلى الرقصة الشهيرة في الأرجنتين، وتعريف المنتخب البرازيليّ بمنتخب السامبّا، والإسبانيّ بالفلامنغو.
وتوسّلت البروباغندا السوفياتيّة الشيوعيّة البائدة بعروض الباليه لتوجيه رسائل سياسية وأيديولوجية. لكن الرقص الشَّرْقيّ لم يصبح رمزاً قومياً لمصر أو أي من البلدان العربية والمشرقية رغم أن وزير الخارجية الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر كان يقصد مصر لمشاهدة الراقصة نجوى فؤاد وغيرها. هكذا بقي الرقص الشرقي أحد الفنون الساحرة في المنتجعات الليليّة ولكنه لم ينج يوماً من وضعه في خانة أعمال «الشيطان». وتبيّن لي أنّ أبرز الكتّاب الذين اختاروا هذا الرقص موضوعاً لهم، كانوا من الجهة الأخرى من العالم، أي من الغرب، وتصبّ أبحاثهم في خانة ما سمي «الاستشراق» بمختلف طبقاته وتياراته ومدارسه... من كتابات وندي بونا فنتورا، وكارين فان نيوكيرك، ويورو بيرغر، مروراً بالروائي الفرنسي غوستاف فلوبير وغيرهم. الأمر الآخر الذي دفعني إلى الكتابة عن الرقص الشَّرْقيّ هو قصص الراقصات الدرامية وعلاقتهن بالمثقفين (نجيب محفوظ ومحمود درويش وغوستاف فلوبير وإدوّارد سعيد) والسياسيين (أنور السادات، هنري كيسنجر)، إذ يظنّ البعض ألا علاقة بين الرقص وبين السياسة، إلا أنّ البعض الآخر يرى فيهما وجهين لعملة واحدة، وربما اختفت هذه العلاقة في العصر الراهن. تتشابه الراقصة مع السياسيّ في عشْقِ كل منهما للرقص: السياسيّ يرقص بلسانه أما الراقصة فبوسطها الذي يبهر العقول ويجذب الأنظار. وكان الروائي التشيكيّ - الفرنسيّ ميلان كونديرا أبدع في وصف الرقص السياسيّ في العصر الحديث، على لسان بطله «بونتيفان» في رواية «البطء» قائلاً إن جميع السياسيين هذه الأيام، في داخل كل منهم جزء من الراقص، وإن جميع الراقصين متورطون في السياسة، الأمر الذي ينبغي ألا يجعلنا نخلط بينهما. الراقص يختلف عن السياسيّ في أنه لا ينشد السلطة، بل المجد ! ليست لديه الرغبة في أن يفرضَ على العالم هذا المشروع الاجتماعي أو ذاك، وإنما في أن يستحوذ على المسرح كي يلمع تحت الأضواء، والاستحواذ على المسرح يتطلب أن تبعد الآخرين عنه، وهذا يلزمه تكتيكات قتالية من نوعٍ خاص.لكن مجد الراقصات منوط بالالتباس، ثمة جمهور يستمتع ويشاهد الرقص الشَّرْقيّ، وتسعده كثيراً نماذج سامية جمال وهند رستم ونجوى فؤاد وتحيّة كاريوكا، لكن هذا البعض يقابله فريق كبير من العرب، نتيجة للثقافة البطريركيّة السائدة، يبتذل مهنة الرقص و{الرقّاصات} (بحسب التسمية العاميّة و{الشعبوية})، باعتباره أكثر أشكال الإغراء سلبيةً وفحشاً.وأسهم كثيرون من صانعي السينما المصريّة، في تكوين ذلك الموقف السلبي تجاه فن الرقص الشَّرقيّ عموماً والراقصة الشَّرقيّة خصوصاً، فأفلام كثيرة تتناول أحداثها قصة فتاة «شريفة» (عفيفة) اضطرّت إلى العمل كراقصة بسبب الفقر والظروف الاجتماعية والمعيشية السيّئة. يحاول بعض الأفلام المصرية أن يتسوّل التبرير الأخلاقي لممارسة الرقص، الأمر الذي عمّم المحاكمة الأخلاقية لهذا الفن وعمل على وضعه في أحط المراتب وأكثرها دونيّةً وابتذالاً واحتقاراً.ولم يعد للراقصة الشَّرْقيّة حضورها في الأفلام المصرية الجديدة بسبب تنامي الأصوليات الدينية و{الاجتماعية» (على عكس الزمن الغابر الذي كانت فيه الراقصة العمود الفقري لأي فيلمٍ مصريّ ناجح) إلى جانب غزو الراقصات الأجنبيات (الروسيات والأوروبيات والبرازيليات... والإسرائيليات)، وإذا كان جوهر فن الرقص العربي التقليدي شأن «مصارعة الثيران» ليس في كثرة حركات الراقصة وإنّما في قلّتها: وحدهن المبتدئات أو المقلّدات البائسات (جواري الفيديو كليبات) يواصلنّ الـ{هزهزة» والـ{نطنطة» الفاجرة هنا وهناك، مما يحسب «إثارة».