يسود انطباع بين كثير من المحللين المهتمين بالشأن المصري أن دحر حكم "الإخوان المسلمين" في الثالث من يوليو الفائت، والتأسيس لنظام جديد في البلاد على أنقاض الفاشية الدينية التي ميزت حكم تلك الجماعة، يعني انتهاء التوظيف السياسي للعاطفة الدينية للمصريين في هذه المرحلة، خصوصاً أن المرشحين في الانتخابات الرئاسية المنتظرة هذا الشهر من مناهضي خلط السياسي بالديني، ومن رافضي أي شكل من أشكال الدولة الدينية.

Ad

إن هذا الانطباع خاطئ، فلا يبدو أن أي شكل من أشكال الحكم تمكن من الاستقرار في مصر دون أن يوظف العاطفة الدينية للمصريين بطريقة أو بأخرى.

حين أتى الإسكندر الأكبر إلى مصر لم يتمكن من توطيد حكمه، وكسب ولاء المصريين إلا عندما أظهر الاحترام الكبير لدينهم، وذبح القرابين لآلهتهم، بل فعل أكثر من ذلك حين ذهب إلى معبد آمون في سيوة، بقلب الصحراء الغربية، وأعلن نفسه ابناً لآمون، وعندها حصد ولاء المصريين وعطفهم، كما تمتع بإخلاص الكهنة ودعمهم.

الشيء نفسه فعله نابليون بونابرت حين غزا مصر في عام 1798، فقد أصدر بياناً قال فيه إن "الفرنسيين أنصار النبي"، وطالب المصريين بأن يصدقوا أن رجال حملته "مسلمون"، كما وضع عمامة على رأسه، وأفهم قواده الأعيان والعلماء المصريين أنه اعتنق الإسلام، وهكذا فعل أيضاً الجنرال "جاك مينو"، الذي خلف الجنرال "كليبر" في قيادة الحملة الفرنسية، وأعلن إسلامه، وأطلق على نفسه اسم "عبدالله مينو".

لا يختلف هذا عما فعلته الدعاية النازية، في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، حين أفهمت المصريين أن هتلر أعلن إسلامه، وصار اسمه "محمد هتلر"، وهو الأمر الذي أجج المعارضة الوطنية للمحتلين البريطانيين، الذين كانوا يخوضون معركة مصيرية مع الألمان على أطراف الحدود الغربية للبلاد.

وبالطبع، فإن أسرة محمد علي استغلت العواطف الدينية للمصريين استغلالاً واضحاً، حتى إن الملك فؤاد الأول سعى جاهداً لكي يعلن نفسه "خليفة للمسلمين"، رغم أنه لم يكن يجيد التحدث باللغة العربية.

أما الرئيس السادات فقد كان أكثر استخداماً للعواطف الدينية للمصريين من سلفه الرئيس جمال عبدالناصر، حيث لقب نفسه بـ"الرئيس المؤمن"، وأدخل تعديلات على الدستور جعل فيها "الإسلام دين الدولة"، وأسبغ على عصره الكثير من مظاهر التدين الشكلي، وأتاح الفرص للجماعات الدينية للعب أدوار سياسية واسعة، بعدما تم أقصاؤها عن المشهد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بقسوة.

تشير تلك الوقائع، وغيرها الكثير، إلى الدور المركزي للتصور الديني في حكم مصر، وإلى محاولة معظم القادة؛ سواء كانوا محتلين أو وطنيين، توظيف هذا الدور لتوطيد أركان حكمهم وكسب الأنصار.

لقد أعطى المرشحان الرئاسيان اللذان سيتنافسان على منصب رئيس مصر في الانتخابات المنتظرة في 26 و27 من شهر مايو الجاري، الانطباعات على أنهما يسيران في ذات الاتجاه، رغم أنهما أبعد ما يكونان عن فكرة إقامة الدولة الدينية أو إعطاء مكاسب سياسية لجماعات أو فئات بسبب الانتماء الديني، كما يعلنان دوماً.

إذا حاولت قراءة البرنامج الانتخابي للمرشح الرئاسي حمدين صباحي، فستجد أن أولى الكلمات في هذا البرنامج، هي الآية القرآنية الكريمة: "وما النصر إلا من عند الله"، وتلك الآية نفسها تتكرر في كل صفحة من صفحات البرنامج.

وقد كان صباحي حريصاً أول أمس الجمعة على أداء الصلاة في أحد المساجد التي زارها ضمن جولاته الانتخابية في المحافظات المصرية، وقبلها بأسبوع استغل زيارته لأحد المساجد في الدلتا وألقى خطبة في أنصاره... أما الصورة التي تتصدر الموقع الإلكتروني لحملته الانتخابية فتظهره وهو يرفع يديه بالدعاء لله في ميدان التحرير وسط حشود من مناصريه.

تبدو مسألة التوسل بالعواطف الدينية أكثر وضوحاً عند المشير عبدالفتاح السيسي، الذي التقى وفدا من رجال الأعمال المصريين قبل أسبوع، فقال لهم "أعاهدكم أن أخشى الله فيكم"، بعدما كان التقى وفداً من أعضاء الطرق الصوفية، مطلع هذا الشهر، وقال لهم "يا رب يكون لنا أجر إن إحنا حمينا الناس في مصر وحمينا الإسلام كمان".

قبل أسبوع، أذاعت وكالة "رويترز" تقريراً مهماً عن الانتخابات المصرية، قالت فيه إن "السيسي يحارب الإسلاميين بالإسلام"، حيث رأت أن السيسي لا يعترف بشيء اسمه الدولة الدينية، متحدياً بذلك أحد الأسس الرئيسة لفكر الإسلاميين، لكن "من المؤكد أنه سيعمل على حماية الدور الذي يلعبه الدين في الحياة العامة".

 وصف السيسي نفسه، في أحد الحوارات الإعلامية التي أجراها أخيراً، بأنه "مصري مسلم، يحب بلده، ودينه، والناس"، ويبدو أنه سيحسم الانتخابات الرئاسية في مصر لمصلحته بفارق مريح، ولذلك فإن تحليل تصوره لدور الدين في الحياة السياسية المصرية سيكون مسألة مهمة.

ستظهر مرتكزات السيسي الدينية، وتصوراته لدور الدين في الحياة الخاصة والعامة والسياسة، في مظهره أولاً، ومظهر عائلته ثانياً، وسلوكه اليومي الذي يرصده كل من تعامل معه ثالثاً، وما قيل عنه من زملاء ومعارف وأقارب في وسائل الإعلام رابعاً، وما كتبه هو شخصياً في بحث أعده خلال دراسته، بكلية الحرب الأميركية، في بنسلفانيا خامساً، وما قاله في حوارات أو خطب أو تصريحات نُشرت أو سُربت سادساً.

سأجازف بمحاولة تحليل التصور الديني للمرشح صاحب الحظ الأكبر في الفوز برئاسة مصر، اعتماداً على تلك المصادر، باعتبار أن هذا التصور ليس شأنا خاصاً يخص الرجل، بل مسألة تهم المصريين وغيرهم في المنطقة العربية وخارجها، لانعكاسه على طريقة إدارة الشؤون المصرية، والعلاقات الإقليمية والدولية، إذا ما تم انتخابه رئيساً كما هو مرجح.

أولاً: يظهر السيسي درجة من الورع واضحة، ويبدي التزاماً صارماً بأداء الشعائر، ويحض عليها، ويسعى إلى إعطاء القدوة لمصاحبيه في التمسك بها.

ثانياً: سيمكن وصف "إسلام السيسي" بأنه "إسلام مصري"، يتسم بالاعتدال والالتزام الشعائري غير المتكلف، ويختلف عن "الإسلام المتشدد"، و"الإسلام الجهادي" الراديكالي، و"الإسلام الأوروبي" المنفتح، الذي لا تجد انعكاساته في المظهر والسلوك اليومي، و"الإسلام السياسي" الذي يرى الحكم شأناً دينياً، ويعتبر الدولة استحقاقاً إسلامياً.

ثالثاً: يفخر السيسي بالإسلام، لكنه يقدم نفسه بوصفه مصرياً قبل أن يكون مسلماً، وبالتالي فهو لا يشارك "الإسلام السياسي" اعتقاده أن "الإسلام وطن"، كما أنه في الوقت نفسه، لا يشارك بعض العلمانيين دعواتهم بـ"ضرورة فصل الدين عن المجتمع"، وإن وافقهم على أهمية ألا يكون وسيلة للوصول إلى الحكم، أو طريقة يجب أن تُحكم بها الدولة.

رابعاً: لا يعتقد السيسي أن الإسلام الصحيح يمكن أن ينطوي على ضرر بالمواطنين غير المسلمين في الدولة التي سيحكمها، وهو ينظر إليهم باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، لكنه يعتبر أن الإسلام يجب أن يكون موجهاً للإطار الثقافي والأخلاقي والتشريعي للمجتمع... وهو يراه "الإطار الأصلح والأنسب" للمصريين بطبيعة الحال.

رابعاً: ينظر السيسي إلى الإسلام باعتباره قوة خير دافعة للعمل والإصلاح، ومصدراً لـ"كل قيمة نبيلة"، لكنه يعول على أثر التقوى في "إدراك البركة"، و"الدعم الرباني للمؤمنين"، و"الإشارات الإلهية" الملهمة لـ"الأتقياء من ذوي الصلة".

خامساً: يحب السيسي الناس جميعاً كما يعتقد، لكنه يحب دينه أكثر، وسيتعامل مع علماء الدين، والإسلاميين، والمتأسلمين، وعرّابي الطقوس والشعائر، ومحترفيها، باحترام، لكنه سيسكتهم بصرامة وخشونة إذا تجاوزوا الحدود إلى محاولة صنع السياسة أو الافتئات على الدولة.

سادساً: حين سئل السيسي في حواره مع "سكاي نيوز العربية"، الأسبوع الماضي، عن "العالم الإسلامي"، قال: "وأين العالم الإسلامي؟"؛ وهو أمر يشير إلى رغبته في شكل من أشكال التواصل بين الدول المنتمية إلى هذا العالم، رغم أنه لا يرى أن ذلك متاح في الوقت الراهن.

سيجسد السيسي تصوره الديني الخاص، الذي يأخذ من العهد الناصري انتصاره للقيم، وانفصاله عن الحكم، ومن العهد الساداتي بعض المظهرية والرطانة الدينية، وسيزيد عليهما نزعة "التعويل على التأييد السماوي"، لكنه لن يسمح بتغول أي تصور ديني على الدولة، كما حدث في عهدي المجلس العسكري ومرسي.

من المستبعد جداً أن يفوز صباحي بالانتخابات الرئاسية، ومن المرجح بالطبع أن يفوز السيسي، لكن سواء فاز هذا أو ذاك، فإن التصور الديني سيظل يلعب دوراً مركزياً في الحياة السياسية المصرية، ورغم اتفاق المرشحين على ضرورة إقصاء فكرة "الدولة الدينية" التي أرادها مرسي، فإن السيسي يبدو أكثر رغبة في إضفاء المقاربة الدينية على خطواته السياسية التي ستتسم بالبراغماتية على الأرجح، وهو أمر سيؤمن له المزيد من الدعم من الأوساط الشعبية، التي ساندت كل رطانة أو مظهر أو اقتراب ديني في السلطة منذ عهد الفراعنة حتى اليوم.

* كاتب مصري