العدو رقم واحد (1 – 2 )
من يقرأ كتاب (ديفيد هيندز/ David Hinds): اقهر الاكتئابBeat Depression، سيجد نفسه لا محالة متورطاً في فحص مزاجه اليومي وتقلبات حياته وارتباطاته الاجتماعية ومعطيات بيئته وتاريخه الوراثي. ذلك أن الاكتئاب في مفهومه العام يظل عَرَضاً من أعراض الحياة، ما دامت الحياة تتقلب بين رفع وخفض ويسرٍ وعُسر. فلا يوجد إنسان محصن ضد الاكتئاب –كما يقول المؤلف - فهو يصيب الناس من جميع فئات المجتمع، ومن كل الجنسيات والثقافات. أما إذا رجعنا إلى الإحصائيات فهناك ما نسبته واحد من سبعة من الرجال، وما نسبته واحد من أربعة من النساء مصابون بالاكتئاب خلال رحلة حياتهم. بل ان هناك ما يعادل 350 مليون شخص يعانون مرض الاكتئاب في العالم حالياً. والاكتئاب قد يكون مجرد عَرَض مؤقت مرتبط بحالة أو ظرف نفسي أو حياتي، وقد يكون مرضاً مزمناً يستدعي طلب العلاج الدوائي أو استشارة طبية أو التردد على المشفى. بل ان اضطراب الاكتئاب قد يدفع المريض في حالاته القصوى والمزمنة إلى الانتحار. وبعيداً عن هذه المأساوية المفرطة، يُقال إن المزاج الاكتئابي ليس اختياراً ولا تلبساً لسمة شخصية، وإنما ينبع في الأصل من عامل بيولوجي لا دخل لإرادة الشخص به. وان المسؤول عن الحالة ليس سوى اختلال في كيميائية المخ، الأمر الذي يؤثر على الخلايا العصبية ومن ثم يؤثر على الإشارات الكهربائية التي يرسلها المخ، والتي من خلال تفاعلات معقدة تشكّل في النهاية الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك.
ويبدو أن للعامل الوراثي أثراً في هذه المسألة أيضاً. فقد تكون الجينات الوراثية سبباً في تعرض بعض الناس للاكتئاب أكثر من غيرهم. ويمكن لأي متأمل أن يدرك هذه البدهية من خلال ملاحظاته للسمات الشخصية للأسر والعائلات. فهناك أسر ذات مزاج رائق يشتركون جميعاً في خفة الظل والظرف، وتجدهم ينشرون النكتة والضحكة أينما حلوا وفي أي مقام كانوا، ويبدو أن كيميائية المخ لديهم في أحسن حالة من التوازن لحسن الحظ. بينما تجد عائلات أخرى يغلب عليهم التجهم والتشاؤم، ويكادون يصيبوك في مقتل لعكارة مزاجهم وثقل أرواحهم. كان الله في العون، فالمسألة بيولوجية وخارجة عن الإرادة! والكتاب في مجمله كتاب تثقيفي، يعلم أساليب الاستجابة الصحيحة للمشكلات التي تفرضها الحياة علينا، وكيفية التعامل معها بذكاء وفهم. والأمر لا يحتاج إلا إلى شيء من القدرة على تفكيك المواقف والمشكلات الحياتية قبل استفحالها، والتقليل من لوم الذات أو إساءة فهم الآخرين.فالتفكير المشوّش والعدائي قد يؤدي إلى آثار مدمّرة ويقلل من تقدير الشخص لذاته ومن ثمة يقود إلى الاكتئاب. وتفادي ذلك لا يكون إلا بتبني طرق جديدة في الفكير أو إعادة برمجة لأنماط التفكير لدينا. وسوف نخصص الجزء الثاني من المقال للأساليب العلاجية المقترحة في هذا الصدد. لعل أكثر ما يستوجب الالتفات له في مجتمعنا خاصة، هو ما نحسه من علامات اكتئاب الأطفال والمراهقين. ويمكن الاستدلال على ذلك بملاحظة ما يتسم به هؤلاء الصغار من قلة النشاط الحركي والميل للكسل، وقلة التعبير عن الذات، والتأخر الدراسي، وارتفاع معدلات السمنة، وغيرها من أعراض تستدعي ولا شك ضرورة التعامل معها منذ وقت مبكر. ليس بالضرورة أن يكون الجو الأسري سبباً في اكتئاب الأطفال والمراهقين، وإنما يظل للأسرة الدور الأهم في تدعيم ثقتهم بأنفسهم وتقديرهم لذواتهم وإكسابهم سمات الشخصية المستقلة التي تساعدهم على مواجهة الضغوط، ومن ثمة تجنيبهم السقوط في وهدة الاكتئاب.إن أمثلة هذه الكتب ومنها الكتاب الذي نحن بصدده، قد لا تطرح جديداً حول اضطراب نفسي وُجد منذ وجود الإنسان، ومنذ تعقدت علاقاته مع بيئته ومجتمعه. إذ ليس من جديد سوى المصطلحات وطرق العرض الحديثة. فقديماً كان يُعرّف الاكتئاب (بالسوداوية)، ولغويّاً صيغت كلمات ومفردات تصف هذه الحالة مثل: الحزن، الهمّ، الضنى، الكَمَد، اللوعة، الغم، الكرْب.. إلخ. وكان للشعر نصيب الأسد في احتوائه على أمثال هذه المفردات، واشتغاله بشرح مكابداتها وأحوالها. وعليه فأكثر الناس اكتئاباً هم الشعراء يليهم الرسامون والفنانون ثم الساسة ورجال الأعمال. أما أشهر أعلام المكتئبين فمنهم: إرنست همنغواي، تشارلز ديكنز، فيرجينيا وولف، فان غوخ، بيتهوفن، ونستون تشيرتشل، نازك الملائكة، خليل حاوي، صلاح عبدالصبور.