توثيق فني لتحطيم الفن
نحن أحياناً نعبر عملاً فنياً في معرض بعجالةٍ، رغبةَ في إهماله حين لا يُعجبنا. وأسباب عدم الإعجاب عديدة قد تكون جمالية خالصة، أو قد تكون سياسية، أو ربما دينية. أحياناً نتوقف أمامه طويلاً لكي نُشبع رغبتنا في التعبير عن استنكاره، شجبه والحط من قدره. نفعل ذلك بلياقة صامتة لإنسان سوي. وبالرغم من هذه السوية التي فينا إلا أن استنكارنا وشجبنا قد يتحول إلى أمنيات في أن نفعل شيئاً يحول دون إعطاء فسحة مكان، وتكاليف مالية لعمل كهذا. في أحيان نادرة تعبر ردود الأفعال هذه في كيان إنسان غير سوي، سرعان ما تتحول الأمنيات فيه إلى أفعال.فيُقدم على الاعتداء على العمل الفني مشوهاً أو مُحطّماً. يتم كل هذا على صعيد فردي. ولكنه قد يتم على صعيد جماعي، خاصةً إذا ما كان الدافع سياسياً أو دينياً.في متحف «التيْت برِتِن» بلندن معرض كبير في هذا الشأن، يَفتتح خريفَ هذا العام، يتداخل فيه الأسى بطرافة تشبه دعابة سوداء. عنوان المعرض «الفن تحت الهجوم: تاريخ تحطيم الصور البريطاني»، وهذا ما تعنيه كلمة Iconclasm في جذرها اللغوي، بالرغم من أنها أصبحت تعني في اللغة الحديثة الابتكار والابداع. ولأن المعرض اقتصر على بريطانيا في القرون الخمسة الماضية، فقد بدأ بالدافع الديني، ومع أكثر ملوكها خرقاً للمحرمات، وهو هنري الثامن(1491- 1547)، الذي انفصل عن سيادة البابا في روما، واستقل رئيساً لـ»كنيسة انكلترا»، وتزوج مرات ست بشرعية مفتعلة، ثم بدأ مرحلة الإصلاح. كانت البروتستانتية الانكليزية شديدة الريبة بالتماثيل والصور الدينية التي تزين أبهاء الكنائس، خشية من المسحة الوثنية في التقرّب منها. ولذلك شنّت حملة على تحطيمها، معززةً بشاهد من الكتاب المقدس يقول «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورةَ شيءٍ مما في السماء من فوق.» (سِفر الخروج 20)
خصص المعرض ثلاث قاعات لحملة الإصلاح البروتستانتية هذه، ومادتُها بقايا تماثيل شائهة ولوحات، أبرزها لوحة استعارية يُرجمُ فيها البابا بالحجارة. تلتها قاعةٌ لحملة التطهُّريين المتطرفين الذين أشعلوا حرباً أهلية في البلد، وقاموا بحملة ضد الرسوم والتماثيل والموسيقى جميعاً، باعتبارها تُخفي نزعة وثنية، وتطلعاً حسّيا. اللوحات والتماثيل هنا أوفر وأبرز تشويهاً. فقد حُذفت العذراء والسيد المسيح وعلامة الصليب من لوحات ومزججات عديدة، وطُلي الفراغ الذي خلّفته بالأزرق. وكذلك حلّت مكانَ بعض الصور الأخرى آياتٌ من الكتاب المقدس.القاعتان التاليتان خُصصتا لمظاهر التدمير والتشويه اللذين حلا بفعل دوافع سياسية. هذه الدوافع ظهرت مع تزايد المعتقدات السياسية والاختلافات بينها. فقد تعرض الكثير من أنصاب الملوك والشخصيات القيادية للهدم والتشويه بيد الجمهور المحتج. ولم يبق للمعرض من مخلفات هؤلاء إلا الرؤوس والأطراف المبتورة. ولعل الأكثر حضوراً هو ما خلّفته الحملة النسوية الممثلة في «الاتحاد الاجتماعي والسياسي للنساء» الذي تأسس عام 1903، المطالب بحق المرأة في الانتخاب عام 13 ـ 1914. فالناشطات اللواتي يُردن «فعلاً لا كلمات» توجهن إلى أكثر مظاهر الحضارة الانكليزية حساسية وهو الفن، ليُرين زيفَ مجتمع يستعرض تطلعاته الإنسانية السامية، في حين يعامل المرأة معاملة كيان مُتدنٍّ. أربكن في حينها أكبر المتاحف والمعارض الفنية حين تعرضن بالتشوية للوحات بالغة الشهرة والقيمة، مثل لوحة «فينوس» الرائعة للإسباني فيلاثكويث.القاعات الثلاث الأخيرة انصرفت إلى الدوافع الجمالية للتشويه، بدءاً من ردود الأفعال السلبية لدى الأفراد، حين تضيق معاييرهم الجمالية بما يرونه قباحةً غيرَ محتملة، وانتهاءً بنزعة لدى فنانين بعينهم اكتشفوا في التشويه المُتعمّد وسائل إبداعية إضافية. فراح أحدهم ينتخب عملاً معروفاً ليعبث به على هواه، باللون والشخبطة. هذه الدوافع اقتصرت على القرن العشرين، وعلى مراحله المتأخرة. القرن الذي منح الانسانية حربين عالميتين، وأقر تجاوز العقل باتجاه ما بعد الحداثة.