باتجاه المدى الأبعد

نشر في 06-02-2014
آخر تحديث 06-02-2014 | 00:01
 فوزي كريم «لا تفعل أرجوك، لا تفعل ذلك... الحشرة لا يُمكن أن تتجسد في صورة، حتى انها لا يُمكن أن تُرى من بعيد؟» هذا ما كتبه فرانتس كافكا (1883 - 1924) لناشره بشأن قصته «المَسخ»، وقد حاول الناشر أن يضع صورة حشرة على الغلاف.

وحكاية «المسخ» أصبحت أشهر أعمال فرانتس كافكا بعد وفاته، وأصبحت رافداً يغذي تيارات كالوجودية والتعبيرية في الفكر والأدب. وحكايتها تنتسب للفانتازيا الكابوسية، لأنها تتحدث عن البائع المتجول غريغور سامسا، الذي استيقظ صباحاً ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة. خسر عمله بالضرورة، وكذلك الأهل الذين كانوا يستعينون في معاشهم بتأجير غرف في البيت. وسامسا المسكين يصبح عقبة في مجرى الحياة السليمة له ولعائلته، التي صارت تسعى إلى التخلص منه.

القصة تنتهي بوفاته، وعودة العائلة إلى الحياة.

كان كافكا، في اعتراضه الصارخ على استخدام صورة حشرة على غلاف قصته، يخشى من أن يتلاشى معنى الاستعارة في الحكاية. لقد أراد، كما يريد الشاعر في القصيدة، ألا تحتفظ الأشياء داخل النص الأدبي بمعناها القاموسي. حين يستخدم الشاعر كلمة «سرير» في قصيدته، تنقطع الصلة بين هذه المفردة ومعناها القاموسي الواقعي، وتصبح منتمية إلى معناها الاستعاري داخل القصيدة. ولكن كيف يمكن أن تتم عملية كهذه حين تُستخدم حكاية «المَسخ» في فيلم أو عمل باليه؟

سبق أن شاهدت أفلاماً عن هذه القصة، وكانت قصيرة في معظمها، باستثناء فيلم سينمائي طويل (2012) لم أحظ بمشاهدته بعد، أخرجه «كرِس سوانتون». وعرفتُ أن موسيقياً استرالياً يدعى «بريان هوَرد» وضع عنها أوبرا تمتد لساعة ونصف بالعنوان ذاته عام 1983. ولكن تقديمها في عمل باليه حدث مرتين، الأولى لم يتجاوز العمل فيها الدقائق السبع، في حين شكل في الثانية عمل باليه طويلاً متكاملاً، بحيث قُدّم على مسرح قاعة الأوبرا الملكية في «الكوفن غاردن» 2013، وصدر في DVD هذه الأيام.

بدأ كافكا كتابة قصته في عام 1912، بعد صيف قضاه مع صديقه ماكس برود في براغ، الذي لم يستجب بما أوصاه كافكا بشأن إتلاف أعماله بعد موته، هناك تعرف على فيلتسي بويَر، التي اعتمدت علاقتُها به على تبادل الرسائل وحدها. في إحدى هذه الرسائل يكتب لها: بأنه جلس، «مع حفنة أشياء مُقلقة وبالغة الاضطراب تدوّم في رأسي»، يكتب قصة المَسْخ «مع رغبة مُلحة بأن أسكب فيها ذاتي كلها». مع هذه الذات سكب خبرة إنسانية شاملة، لا تقتصر على حدود فردية. وهذا ما يحدث مع كل نص إبداعي كبير. ولذلك تجد المعنى الاستعاري يتسع ويتجاوز المعنى الحرفي لتحول كائن إنساني إلى حشرة ضخمة. وإلا فمعنى المَسْخ مألوف في الأساطير («مسْخ الكائنات» لأوفيد).

في الباليه يمكن تحقيقَ الاستعارة والمعنى المجازي عبر حركة الجسد الراقصة. ولقد أعطى راقص الباليه «أدوارد واتسون»، بإدارة وإخراج «آرثور بيتا»، عينةً مُثلى لتحقيق هذا المطمح. فالإنسان لم يُزوّد بالملاقط والأعضاء الشائهة، ليُصبح حشرةً ضخمة. بل فتح لأعضائه، وأطرافه، ولكل عصبٍ وخلية وعضَلٍ فيها، طواعيةَ حركةٍ تعبيرية تفوق التصور، لتجسيد هذا التحول. إنه الإنسان الفرد، وهو في لحظات تجاوز إلى الانسان الكوني. تشعر وأنت تشاهده كأنك تشاهد مأزقاً يتجاوز أي معنى كميّ، إلى مأزق نوعي. لأن الموسيقى بدورها تُضفي على الحركة بُعداً تجريدياً، يفلت من قبضة الحواس.

الإخراج يُعزز هذا التجريد، فالمسرح يكتفي بجزأين: صالة أكل العائلة، وغرفة غريغور سامسا. وكلا المكانين بالغ البياض والفراغ، يُذكرك بغرف العناية الطبية. وكل الأحداث تُترك لحركة الراقصين، وللموسيقى المدوّمة التي تصاحبهم. وعلى امتداد ساعة ونصف لا تحتكرك براعةُ الراقص بفعل الدهشة، بل تقودك إلى مدى أبعد من الإدهاش. إلى مدى التساؤل عن المعنى، أو المعاني الخفية في الرأس الملتبس للمؤلف الشاب. خاصة إذا ما كان هذا المؤلف مألوفاً لديك عبر أعماله الأخرى، التي لا تقل شهرة، مثل «المحاكمة» و«القصر».

back to top