في مقدمته للكتاب يشير طرابلسي إلى أن هذه الدراسة تسعى إلى ما يعبر عنه عنوانها: {إثبات وجود تراتب اجتماعي في لبنان يقوم على المواقع المتفاوتة لسكانه من الاقتصاد والموارد والدخل والثروة وعلاقات الإنتاج والملكية}. بعبارة أخرى، يريد منها الكاتب إعادة الاعتبار إلى مفهوم الطبقة في إنتاج المعارف عن المجتمع والسلطة في لبنان.

Ad

يتصدى المؤلف لأبرز فكرتين سائدتين في مقاربة المجتمع والسلطة في لبنان. الأولى لا تعترف بجماعات إلا الطوائف، وتختزل السياسة والدولة بما هما نصاب الطوائف ونزاعاتها ومحاصصاتها. والثانية تنطلق من فرضيات {الدولة الفاشلة} و{المفقودة} وقصور الدولة عن عدد من مهماتها المفترضة أو المتمناة لتصور وتصوير الدولة بأنها غير موجودة، أو أنها مدمرة تحتاج إلى عملية {بناء الدولة}. بالعكس ينطلق طرابلسي من أن الدولة في لبنان هي المجال الذي يعاد فيه إنتاج الطوائف والطبقات والتوازنات في ما بينها وداخل كل واحدة منها. حتى أن ما يُرى إليه على أنه ضعف وغياب في الدولة يعود في حالات عدة إلى سلب أدوارها المفترضة لمصلحة استقلالية الطوائف وضرورات الاقتصاد الحر.

طوائف وطبقات

في الفصل الأول من الكتاب {نقاط استدلال منهجية}، يركز طرابلسي على منهجيات عدة في مقاربة الطبقات والتراتب الطبقي وتكيفها مع ميزات وخصوصيات اقتصاد ريعي، هزيل البنية الإنتاجية، ذي وجهة خارجية كالاقتصاد اللبناني. فيبدأ بنبذة عن الأشكال المميزة لإنكار وجود الطبقات والاستغلال والفقر في الأيديولوجيا السائدة. ومن ثم ينتقل للنظر في الطوائف والطبقات، بما يتجاوز فصل الواحدة منها عن الأخرى في امتداد عزل النصاب السياسي عن الاقتصاد، والعكس بالعكس، لإعادة الاعتبار إلى التقاطع بين البنية الطائفية والبنية الطبقية، في إطار الرسملة المتزايدة للمجتمع اللبناني، والتشابه والتأثير المتبادل بينهما.

الفصل الثاني {لبنان المتعولم يدخل من الليبرالية إلى النيوليرالية}، يتحدث فيه الكاتب عن سلطان المال، وعن تأثير المضاربة على مديونية الدولة، وبعض النتائج الاقتصادية البنيوية، وعن التحولات في البنية الاجتماعية بعد الحرب. ويخلص المؤلف من هذا الفصل إلى أن آثار التحولات الاقتصادية والاجتماعية لمشروع الإعمار، تبين لنا أنها أدت الى تعميق الفوارق الاجتماعية بدلاً من تقليصها وأن الاقتصاد اللبناني ازداد ريعية، وتضخمت مداخيله الخارجية، وتعزز تمركز رأس المال فيه وتنامى الطابع العائلي للمؤسسات الاقتصادية.

الفصل الثالث، «الأوليغارشية» يخصصه طرابلسي لمتابعة تركيب الأوليغارشية وسلوكها من خلال: إلقاء نظرة تاريخية موجزة تبين مدى الالتصاق الأصلي بين الأوليغارشية والسلطة السياسية وتركيبها الاحتكاري وطابعها العائلي منذ الاستقلال. ويقدم بعد ذلك أطروحة تقول إن الشبكة المالية- الاستيرادية- العقارية تسيطر على قمم الاقتصاد. ويفصّل في ظاهرتين جديدتين لفترة بعد الحرب: تزايد الطابع الاحتكاري للنظام الطبقي، ونمو شكل جديد متعدد المهمات والاختصاصات من أشكال التملك والإدارة لرأس المال هو «الهولدنغ». ويختم بالتعريف بـ«الهيئات الاقتصادية» بما هي حزب البورجوازية.

تمايز اجتماعي

في الفصل الرابع «الطبقات الوسطى»، يسعى الكاتب إلى مقاربة الطبقات الوسطى في الحالة اللبنانية، وموقعها من الاقتصاد والسياسة والتركيبة الطبقية، ومحاولة رسم تخومها وتمييز شرائحها، وتطورها، والإجابة عن السؤال: هل هذه في حالة انكماش أم توسع؟ انهيار أن ازدهار؟ إلى أن يثير أخيراً مسألة تمثيلها النقابي والسياسي. وقد اعتمد طرابلسي مفهوم التمايز في تصنيف الشرائح الفاعلة داخل الطبقات الوسطى وممارساتها وسلوكها السياسي. وتبيّن له الحاجة الماسة لدراسة الأشكال المختلفة من التعبير عن التمايز الاجتماعي من خلال السوق، أي من طريق النزوع الاستهلاكي الجارف في المجتمع اللبناني بعد الحرب.

وفي مجال التمايز السياسي والسلوكي، وجد أن الأثر الأكبر على تحولات ما بعد الحرب الأهلية هو توزع قسم كبير من أفراد الطبقات الوسطى بين نزعتين رئيستين: واحدة ليبرالية، ميدانها {المجتمع المدني} ومنظماته غير الحكومية، وأخرى شعبوية أشدّ انضباطاً في أطر حزبية في ظل قيادة فردية مهيوبة ووحدانية الهوية المذهبية، رغم تعدد وتنوع الانتماء الطبقي والاجتماعي والمهني داخل الطائفة والمذهب.

في الفصل الخامس يتحدث طرابلسي عن {القوى العاملة بالأجر}، ويرى أن كل الدلائل تشير إلى تقلّص الحجم العددي للقوى العاملة بالأجر، بسبب الهجرة، وخصوصاً في الصناعة والزراعة، والتدهور المتزايد في مستوى معيشتها عموماً، في لبنان بعد الحرب.

 ولعل أبرز ما ينبئ بنمو الاستقطاب الطبقي في ظل الإجراءات النيوليبرالية المنفّذة من قبل السلطة الطبقية، هو تجميد الأجور والحد الأدنى للأجور خلال فترة ١٩٩٧ - ٢٠١٢ من دون تجميد الأسعار التي ارتفعت بنسبة تجاوزت ١١٥٪  في نهاية ٢٠١٢ . وفي هذا الفصل يضيء الكاتب على قضايا تتعلق بالعمال والأجراء، كالبطالة ووطأة العمالة الوافدة، ومآسي العمالة المنزلية، وتقسيم الحركة النقابية وتطييفها، والصراع الطبقي بواسطة الحركات الاجتماعية وقضايا  أخرى متعلقة بهذا الملف.

أما الفصل السادس {السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية}، فيرى فيه فواز طرابلسي ألا حاجة لتقديم أدلة كثيرة على سيطرة رأس المال على السلطة في لبنان، فترة ما بعد الحرب، عندما يكون رأس المال مسيطراً أصلاً على الدولة وليس على السلطة فحسب. فالمصارف هي دائن دولة مفلسة يجري إنعاشها بالوسائل الاصطناعية بدعم خليجي ودولي معلَنين .وعلاقة رجال الأعمال بالدولة، تتنامى في السنوات الأخيرة، من خلال الاستقواء بسلطة الدائن على مداخيل المديون ومصاريفه.

على أن هذا لا  يمنع الكاتب من التبحّر في العلاقة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية في فترة بعد الحرب، ويتتبع التحولات الأساسية التي طرأت عليها: التماهي المتزايد بين رأس المال والسياسة؛ وتكوّن طبقة حاكمة تندمج فيها الأوليغارشية مع الطاقم السياسي الحاكم؛ ومتابعة انزياح مركز استقطاب مصالح الأوليغارشية من مركز إلى آخر، فترة بعد الحرب، ورصد التحوّلات التي طرأت على سوسيولوجيا الطبقة الحاكمة إلى أن نثير السؤال عن الجدوى في استمرار الحديث عن نظام محسوبية (زبائنية) في لبنان بعد الحرب.

تضمنت الدراسة خاتمة وضع فيها الكاتب الخلاصات التي خرج بها، وملحقيين، الأول عن الطوائف وتمثيلها السياسي في لبنان، والثاني عن شركات الهولدنغ، وتوزعها على العائلات والشخصيات في لبنان.

فواز طرابلسي

كاتب ومؤرخ وأستاذ جامعي ومترجم وصحافي. تناول في مؤلفاته العشرين ومقالاته وأبحاثه، التاريخ والسياسة وحركات التحرر الوطني والحركات الاجتماعية والسير والفن. آخر ترجماته {خارج المكان} لادوارد سعيد، وآخر مؤلفاته {تاريخ لبنان الحديث} (2011)، {حرير وحديد. من جبل لبنان الى قناة السويس} (2013) و«ثورات بلا ثوار} (2014).